المعركة
أبعاد التشخيص وآفاق التمكين في الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى المناظرة الوطنية حول الجهوية
إبراهيم أونبارك
باحث في الفعل الترابي وإشكالية التنمية
هل سينجح الفاعلون الترابيون في تفعيل مضامين الرسالة الملكية السامية حول الجهوية المتقدمة؟ هذا هو سؤال الانطلاق الذي قد يطرحه كل مهتم بالشأن الترابي لحظة قراءة السيد وزير الداخلية للرسالة الملكية التي وجهها صاحب الجلالة إلى المشاركين في المناظرة الوطنية الثانية حول الجهوية المتقدمة، والمنعقدة بمدينة طنجة يومي 20 و21 دجنبر 2024، وهي الرسالة الثانية بعد تلك التي وجهت للفاعلين الترابيين سنة 2019 إبان المناظرة الأولى حول رهان الجهوية ذاته.
وغرضنا من الوقوف على الرسالة الملكية السامية، ليس هو إنجاز نوع من “تحليل الخطاب” أو الوقوف على طبيعة اللغة المستعملة في توجهات جلالة الملك، باعتباره فاعلا في وضع الاستراتيجيات الكبرى للمملكة. وإنما ستكون هذه “الأرضية” محاولة للتفكير مليا في “ذهنية التدبير الترابي” للفاعلين من خلال مدى إدراكهم لفحوى ومضامين الرسالة الملكية التي لا يمكن إلا أن تكون تشخيصا للوضع الجاري، وأيضا وضع لبنات لآفاق تدبيرية لابد من أخذها بعين العقل في كل تفعيل للجهوية المتقدمة. إن المقال بالتالي محاولة لتقديم مضامين رسالة عاهل البلاد للمنتخبين المحليين والدفع بهم للتفكير مليا في الخطوط الكبرى للسياسات الجهوية التي تتضمنها الرسائل الملكية وأيضا الدفع بهم لعقد المقارنة مع واقع الجهوية، وذلك بهدف تقريب التغيرات والتحولات التي عرفها ورش الجهوية المتقدمة وإلى أي حد يستطيع المنتخب المحلي والفاعل في تدبير الجماعات الترابية بكل تصنيفاتها، وعلى صعيد مختلف مستوياتها فهم فحوى الرسالة الملكية، والعمل على وضعها في صلب العمل اليومي قصد تجاوز الاختلالات التي ما فتئنا نشير إليها في مقالات سابقة، وتنم في مجملها عن العوز الذي يعتري الفعل الترابي ويعرقل، غير ما مرة، تجويد حوْكمة تدبير الشأن الترابي الجهوي لخدمة المواطن قبل كل شيء.
1- الرسالة الملكية الموجهة للمناظرة الأولى: الأسس العامة للجهوية المتقدمة
وُجهت الرسالة الأولى للمشاركين في المناظرة الأولى يوم 20 دجنبر 2019 كتعبير عن الإرادة الملكية في مواكبة هذا المشروع المجتمعي الذي لا محالة، ستكون له نتائج إيجابية على التدبير الجماعي للتراب الوطني في أبعاده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، لذا كان من البديهي أن تلح الرسالة الملكية السامية إلى اتخاذ ورش الجهوية “خيارا استراتيجيا” ورهانا، لا محيد عنه لتحقيق اللامركزية الإدارية والترابية التي من شأنها المساهمة في بناء دولة معاصرة، وكانت دعوة جلالته إلى تأسيس “لجنة استشارية للجهوية المتقدمة” خطوة أولى منذ رسم التوجهات العامة لهذا الخيار، وبهذا تكون المناظرة الأولى تأسيسا للقاموس المفاهيمي حول الجهوية، مبني على “المنتظر من الجهات” في أفق تحقيق التنمية المندمجة على أساس “الديموقراطية والفعالية التشاركية”. كما أكدت المناظرة الأولى من منظور ملكي على تحقيق مقتضيات دستور المملكة الداعي إلى التفعيل الأنجع للتنظيم اللامركزي المبني على الجهوية المتقدمة، وهذا لن يتأتى إلا عبر وضع هياكل إدارية وترسانة قانونية، مع ضرورة إخراج “ميثاق اللاتمركز الإداري” إلى حيز الوجود، وما يرتبط بهذا البعد الهيكلي من إجراءات تهم وضع “التصاميم المديرية للاتمركز الإداري وغايتها تسهيل النقل الفعلي للاختصاصات الموكولة للجماعات الترابية. لتختزل إذن رسالة 2019 مضمونا مفاده أن الجهوية تحتاج بنيات إدارية وهياكل تدبيرية وترسانة قانونية واضحة، تسهر عليها مؤسسات دستورية.
2 الرسالة الملكية الموجهة للمناظرة الثانية: تقييم تجربة الجهوية في ظل التحديات الكبرى للتفعيل
مثلما نقول دوما في تقييم التجارب التنموية: ” الزمن وحده المختبر الحقيقي للتنمية”، يكفي أن تكون الست سنوات التي مرت على المناظرة الأولى ومرور ما يقارب العشر سنوات على ظهور خطاب الجهوية المتقدمة ومسارات البحث عن تفعيله، لاسيما في جو مفعم بوجود إرادة سياسية مرفقة بدخول القوانين المنظمة للجهات والجماعات الترابية عموما حيز التنفيذ، كان من الضروري اليوم التوفر على مرآة للإطلاع على ما تم تحقيقه خلال عقد من زمن الجهوية وهذا هو صميم الرسالة الملكية الموجهة للمناظرة الثانية حول الجهوية المتقدمة، والتي نظمت بمدينة طنجة يومي 20 و21 دجنبر 2024، رسالة بمضمون مكمل لما تطرقت إليه رسالة 2019.
ويمكن القول، بهذا الصدد، أن نداء عاهل البلاد إلى المشاركين في هذه الدورة، يختزل بين ثناياه مختصر “عشرية الجهوية”، وهي تجربة تقتضي الانتقال من “الإطار التوجيهي” والتفكير في آليات التفعيل إلى “حصيلة التنزيل”، وهي بلا شك خطوة ستفتح آفاق تقييم مختلف الأبعاد الإدارية والقانونية والسياسية والمالية والتدبيرية للجهوية، ليس مثلما نَظَّرنا لها فحسب، وإنما أيضا مثلما تمت أجرأتها فعليا. وهنا لابد من التوجه صوب تقييم الأسس والمرتكزات، بدأ من اختصاصات الجهات، تحديد مسارات التعاقد الجهوي، الإدارة الجهوية، تحديد مقتضيات الحكامة المالية ثم الديموقراطية التشاركية.
لذا، وضعت الرسالة الملكية مسالك منهجية لتقوية آلية التقييم هذه عبر سبع محطات مركزية سنتها الرسالة كالآتي:
– تحدي الأجرأة الفعلية للميثاق الوطني للاَّتمركز الإداري: هنا تسائل الرسالة الملكية “ضمير التدبير الجماعي الجهوي ” حول مآل هذا الميثاق وسيرورة تفعيله، سواء من حيث تجويد الترسانة القانونية المنظمة لعمل المجالس الجهوية والمؤسسات التابعة لها، ومدى وضوح الاختصاصات التدبيرية، ومغزى هذا البعد في رسالة عاهل البلاد تطرح سؤالين مركزيين لابد من أخذهما بعين الاعتبار هما: ماذا تحقق من الميثاق؟ وكيف تم تفعيله؟
– تحدي تعزيز الديموقراطية التشاركية على المستوى الجهوي: أشارت الرسالة الملكية إلى موقع المقاربة التشاركية، خصوصا من حيث إشراك المواطنين وهيئات المجتمع المدني في صياغة وإعداد و”تنفيذ ومراقبة وتقييم السياسات العمومية المتخذة بمعية المجالس الجماعية،
– تحدي ربط المسؤولية بالمحاسبة في تدبير الشأن الترابي،
– تحدي الارتقاء بجاذبية المجالات الترابية عبر جذب الاستثمار المنتج: وهنا ركزت الرسالة المولوية على تحفيز النمو الاقتصادي القادر على خلق ” فرص الشغل وتحسين ظروف عيش المواطنين”. وتختزل الرسالة هذه الدعوة إلى ضرورة امتلاك “استراتيجية إدارية” تستهدف تعزيز الجاذبية على عدة أصعدة(بيئة مواتية للمقاولات، بنيات تحتية حديثة، يد عاملة مؤهلة،…)،
– تحدي قدرة الجهات على ابتكار آليات تمويلية جديدة: وهو التحدي الذي يورق المدبرين، حتى الأكثر كفاءة منعم/ إذ ما لبث المبحثون في مختلف الدراسات التي تناولنها بهذا الصدد، يعبرون عن “المشكلة المالية وضعف الميزانيات المخصصة للجهات بالمقارنة مع الحاجيات، لاسيما في جهات قليلة الموارد. لكن هذا التحدي الواقعي يطرح في الآن ذاته مسألة التدبير المالي للجهات من زاوية الحكامة المالية من جهة، وقدرة المنتخب المحلي على فتح قنوات تمويلية بديلة لتغطية عوز الميزانيات الجهوية من جهة ثانية.
– تحدي الأزمات الجهوية والقدرة على التكيف مع التحولات الترابية: هنا تفتح الرسالة الملكية لبنات الخطاب الجهوي نحو التغيرات السريعة التي تعرفها مختلف المناطق، خصوصا على مستوى الأزمات المفاجئة التي قد تظهر جراء التغيرات المناخية الكبرى التي يعرفها العالم، والتي لابد للمنتخب أن يكون على وعي بها، ليس فقط على مستوى قدرة التنبؤ فحسب، وإنما أيضا على مستوى أخذ زمام المبادرة في تجاوزها وتجنب المواطنين تابعتها السلبية قدر الإمكان.
وتم ختم الرسالة الملكية بدعوة الفاعلين في الشأن الترابي إلى وضع برامج تتسم بالمرونة ، مع التفكير مليا في وضع “استراتيجية لتدبير المخاطر” ( على رأسها الإجهاد المائي)، كما لتفتت الرسالة انتباه المشاركين إلى منظومة النقل والتنقل الجهويين، ومدى الانخراط في مسار التحول الرقمي لما له من أهمية في تطوير جودة عمل الجهات.
3-الرسالة الملكية السامية: هل النخب الجهوية في مستوى التحدي؟
يتضح أن الخطوط الكبرى للرسالة المليكة الموجهة إلى المشاركين في مناظرة 20 و21 دجنبر 2024 تعد تشخيصا لما لم نحققه بعد، في تدبير الجهوية المتقدمة، وبالتالي فقد أعفت الفاعلين الترابيين من هدر المزيد من الوقت في تشخيص الوضع التدبيري الجهوي أو تخصيص ميزانيات إضافية، على قلتها، لتحديد التحديات التي تعرقل العمل الجماعي، ويكفي فقط أخذ محتويات الرسائل المباشرة لعاهل البلاد، والشروع في عمل دؤوب قصد تفعيلها، ولن يتأتى للجماعات الترابية المسؤولة على تدبير الجهات والأقاليم والشأن المحلي ذلك إلا عبر تجاوز المعيقات التي ما لبثنا نميط اللثام عنها في دراسات سالفة :
-ضعف الثقافة القانونية المنظمة للتدبير الجماعي: حيث يظهر سوء تدبير مختلف العمليات الإجرائية والاختصاصات الذي تعانيه العديد من الجهات في عدم ضبط المنتخب للتشريعات المسيرة للجماعات الترابية( 111/14، 112/14، 113/14، وغيرها)، هذا دون نسيان الثغرات الموجودة في بعض المواد القانونية، سواء تلك المرتبطة بالتداخل في الاختصاصات أو تلك الخاصة بالمساطر القانونية المنظمة للشراكات والتنسيق بين الجهات ومختلف الفاعلين، وعلى رأسها الدولة والساكنة وهيئات المجتمع المدني،
-ضعف المقاربة التشاركية في تدبير الشأن الترابي: فرغم الانتشار الملحوظ في تقارير الفاعلين الترابيين لهذا الخطاب الداعي إلى فتح باب المشاركة في وجه كل المنخرطين في الشأن الترابي، ففعالية هذا التشارك والتقاسم للشأن الترابي مزال يواجه تحديات منبثقة بالأساس من “أحادية القرار” التي تستحوذ على ذهنية المنتخب المحلي ظنا منه( طبعا لا نعمم مادام هناك رجال ونساء أكفاء في القدرة على لم شمل تراب الجماعة في تكتل يتجاوز الانتماءات السياسية والحزبية والاقتصادية والثقافية وغيرها ) أن إشراك برامج التدبير أو مناداة الساكنة والهيئات الجمعوية بتقديم مقترحاتها حول مسار تراب الجماعة ومصيره، يعد تنازلا عن حق الهيمنة التي خولته إياه الانتخابات.
– انتصار المصلحة الخاصة على مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة: ما فتئ صاحب الجلالة يلح في مختلف خطاباته الموجهة إلى المدبرين الترابيين على هذا المبدأ الدستوري، لكن تتبع السير اليومي للجماعات الترابية يبين أن العديد ممن يتولون شأن المواطنين لا يأخذون هذا الأساس الذي ينم عن نضج الفعل السياسي وممارسته بعين الاعتبار، مما يجعلهم أدوات لاستشراء الفساد والرشوة والعشوائية وغياب القانون، وما المحاكمات المتتالية لرؤساء الجماعات وغيرهم من المدبرين للشأن العام المحلي والجهوي، والتقارير التي تصدرها مختلف مؤسسات المراقبة، سواء المجلس الأعلى للحسابات أو المفتشية العامة لوزارة الداخلية إلا دليلا على هذا الشرخ الكامن في الممارسة الترابية. وتثبت تجليات “عقلية الفساد” التي مازلت تسكن العديد من المنتخبين الذين ينالون مناصب التدبير الجماعي دون قدرات التمكين في إنجاح تجربة الفعل الجهوي.
– ضعف قدرات الجهات وجاذبيتها: لا يمكن لجهات تسيرها مجالس بمنتخبين أكثر من نصفهم يرزح تحت وطء أمية معرفية وتدبيرية، ونقصد هنا عدم قدرة أغلب المنتخبين من فك شفرات الجمل القانونية الداعية إلى أحقية المنتخب في فتح قنوات للتواصل مع مختلف الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين، سواء داخل القطاع العام أو الخاص بغرض تقوية المؤهلات الترابية للجهة التي هو مسؤول عن تدبيرها. هذا دون إهمال الاختلالات المسجلة في أجرأة العديد من القوانين وعلى رأسها، على سبيل المثال لا الحصر، تلك المنظمة للعلاقة بين الجماعات الترابية وغيرها من المؤسسات الساهرة على تدبير التراب ومن بينها المراكز الجهوية للاستثمار مثلا، وفي تلك المحددة للعلاقة بين السلطة الإدارة والمنتخبين، نهيك عن غياب التنسيق المسجل على صعيد كافة الأصعدة. ولم ينتج هذا الغياب لتكامل المهام الترابية إلا تحويلا للشأن التدبيري الجهوي إلى “كرة نارية” يتقاذفها الفاعلون، وكل منهم يلقي العتاب واللوم على من دونه في موقع التدبير، وبالتالي، لم يفرز كل هذا إلا خطاب التملص من المسؤولية وإنتاج عوائق مجالية، تؤثر سلبا على تحقيق هذه الجاذبية المرغوب فيها.
وهذا الضعف على مستوى تكوين المنتخبين ونقص الثقافة القانونية، وآليات التواصل الفعال، ستتم تغطيته بخطاب سياسوي لا يتضمن بين ثناياه أبعاد تنموية واضحة، نهيك عن الإكراهات الأخرى التي تفوق طاقة المدبر والجهة معا، وهي بمثابة تحديات طبيعية وإيكولوجية ترزح تحتها مختلف الجهات مما أدى إلى جعلها في وضعية هشة vulnérable أمام أي محاولة لوضع آليات الابتكار الهادف إلى مواجهة المخاطر المفاجئة( ولنا في تجربة زلزال الحوز وفيضانات الجنوب الشرقي عبرة) هذه الإكراهات الناجمة عن التغيرات المناخية الكبرى التي باتت تهدد ليس المغرب وحده ، وإنما كافة بلدان المعمور كافة.
ولتكون المناظرات الجهوية بفاعلية أفضل، ويكون نقاش تقييم التجربة الجهوية في منتهى تحقيق الاستفادة المرجوة منها، سنحتاج إلى منتخب جهوي وفاعل ترابي قادر على التقاط مغزى المضامين التي تتضمنها الرسائل الملكية السامية، والعمل على تطبيقها بمعزل عن أية مزايدات سياسية أو تصفية حسابات حزبية ضيقة يتحول عبرها التراب الجهوي إلى ساحة حرب كلامية تؤجل انتظارات المواطنين إلى برنامج انتخابي مقبل.
عذراً التعليقات مغلقة