إحياء الاتحاد المغاربي وأزمة الدول الوطنية

15 نوفمبر 2019
إحياء الاتحاد المغاربي وأزمة الدول الوطنية

د.محمد شقير

تضمن الخطاب الملكي الذي ألقي بمناسبة الذكرى الـ44 للمسيرة الخضراء إشارة إلى الأزمة العميقة التي تعاني منها ليس فقط الدولة بالمغرب بل كل دول المنطقة المغاربية نظرا إلى المطالب التي تحاصرها من مختلف الشرائح الاجتماعية والشركاء الخارجيين، إذ أن “الوضع الحالي بالمنطقة وبالفضاء المتوسطي يسائلنا جميعا، ويدعونا للتحرك الإيجابي، نظرا لما يحمله من فرص وتحديات.

* فالشباب المغاربي يطالبنا بفضاء منفتح للتواصل والتبادل؛

• وقطاع الأعمال يطالبنا بتوفير الظروف للنهوض بالتنمية؛

* كما أن شركاءنا، وخاصة الأوروبيين، يحتاجون إلى شريك فعال؛

* وإخواننا الأفارقة جنوب الصحراء، ينتظرون مساهمة بلداننا في البرامج والتحديات الكبرى للقارة؛

* وأشقاؤنا العرب يريدون مشاركة المغرب الكبير في بناء نظام عربي جديد.

إن الآمال والانتظارات كبيرة، والتحديات كثيرة ومعقدة. وما يبعث على الأسف هو أن البعض لا يتعامل معها بجدية. والحقيقة أن عدونا المشترك هو الجمود وضعف التنمية، التي تعاني منها شعوبنا الخمسة”. وبالتالي، فهذا التشخيص الملكي للواقع الحالي للدولة العصرية في المنطقة المغاربية لا يرتبط بالوضع السياسي والإقليمي الراهن الذي يحيط بهذه الدول، بل يجد جذوره في طبيعة تكونها السياسي الذي ارتكز على تبني النموذج اليعقوبي الفرنسي، والتقطيع السياسي والإداري للمجال المغاربي.

1 – تبني النموذج اليعقوبي الفرنسي

يرى الباحث الفرنسي، Alain Fentفي مقال بعنوان L’Etat-Nation et la démocratie en Afrique : contraintes internationales et Dynamisme interne أن هناك استمرارية واضحة بين المؤسسات التي تم وضعها من طرف دول الميتربول في البلدان الإفريقية وبين الدولة الإفريقية. وقد أرجع هذه الاستمرارية إلى الانتشار العالمي لنموذج الدولة-الأمة. لكن لا بد من طرح التساؤل عن سبب هذا الانتشار، هل يرجع فقط إلى عوامل تقنية أم يتعلق الأمر بنمط إنتاج استطاع التوسع والانتشار عالميا؟

إن التدقيق في هذا الأمر، يفضي إلى الاقتناع بأن نموذج الدولة- الأمة كان إطارا اجتماعيا- سياسيا استطاع النظام الرأسمالي بلورته وتحديد معالمه كلها؛ ومن ثمة عمل على نشره في مختلف بقاع العالم.

وقد شكل الاستعمار الأسلوب الفعال في زرع وتقعيد هذا النموذج؛ الشيء الذي تجلى بالخصوص في حرص القوى الاستعمارية على تركيز وتدعيم معالم الدولة-الأمة في مختلف المناطق المستعمرة. فإذا أخذنا الاستعمار الفرنسي في بلدان شمال إفريقيا سنلاحظ هذه الظاهرة بجلاء ذلك أن التدخل الفرنسي قد حرص منذ البداية على إدخال ما يسمى بالإصلاحات (إصلاح الجمرك، إصلاح الإدارة…)؛ وكل ذلك كان يجسد تركيزا لأسس نموذج الدولة-الأمة بطابعها الفرنسي. من هنا، فليس من الغريب أن ترث الدولة المغاربية “نهجا ووضعية لهما منطق الدولة الفرنسية اليعقوبية…” الشيء الذي أفضى إلى عدم تطابق بين الدولة المغاربية والمجال الذي تفعل فيه. ذلك أن نموذج الدولة-الأمة الذي تبنته أغلب الدول المغاربية كان وليد منظومة إنتاجية فكرية خاصة تحددت بشروط وظروف تاريخية معينة. وقد اكتسب هذا النموذج خاصيتين أساسيتين: الوطنية والمركزية. وهكذا سيصبح منطق “الوطنية” هو المتحكم في التقطيع السياسي للمجال المغاربي، في حين سيشكل منطق “المركزية” محركا أساسيا في محاولة الدولة المغاربية ضبطها لمجالها الوطني والمحلي.

2 – التقطيع السياسي للمجال المغاربي

إن مفهوم “الحدود السياسية” مفهوم حديث في منطقة المغرب العربي. ويرجع ذلك أساسا إلى عدة عوامل:

– عامل سياسي، ويتجلى في أن السلطات السياسية المغاربية، في القديم، لم يكن باستطاعتها بلورة حدود بمدلولها العصري؛ إذ كان “ملوك إفريقيا الشمالية إذا استولوا على بلاد يقتصرون على ضبط حواضرها الهامة، ولا يعتنون كثيرا برسم حدودها الطبيعية والجغرافية….

– عامل اقتصادي يتجسد في تشابه النمط الإنتاجي المغاربي.

– عامل اجتماعي يتحدد في طبيعة التركيبة القبلية التي كانت تشكل حجر الأساس للمجتمع المغاربي.

– وعامل جغرافي يتمثل في امتداد المجال الصحراوي بين مختلف مناطق المغرب العربي بكل ما يترتب عن ذلك من صعوبة في تحديد المعالم الحدودية وضبط التنقلات البدوية.

ومن ثمة نرى أن “الفرد المغاربي قبل الاستعمار كان يعيش في محيط مجالي متقاطع كان يعرف أوضاعا حدودية، لكن كان يجهل مفهوم الحدود السياسية”. هذه الأخيرة، التي بدأت بالتبلور بظهور الدولة-الأمة في منطقة المغرب العربي مع التوغل الاستعماري، وتدعمت بتركز الدولة المغاربية بعد الاستقلال؛ بحيث عملت مختلف الدول المغاربية على المحافظة على التقطيعات السياسية التي خلفتها الخرائط الاستعمارية فرفع مبدأ المحافظة على الحدود السياسية التي خلفها الاستعمار كان في الحقيقة تعبيرا عن تكريس كل دولة مغاربية لإطارها المجالي، الذي كان يعكس في الوقت نفسه تقطيعا لحدود مصالح اقتصادية”. لكن رغم ذلك، فالدولة المغاربية لم تستطع أن تطابق بين حدودها السياسية وهويتها الوطنية؛ بحيث إذا كان نموذج الدولة الأمة الفرنسية قد استطاع أن يحقق التماهي بين الحدود الثقافية من خلال خلق هوية سياسية منسجمة “، فإن الدولة المغربية قد عجزت عن تحقيق ذلك نظرا لعدة معوقات سياسة وثقافية تتمثل في:

– عدم قدرتها على خوض غمار حروب طويلة في ما بينها، يمكن أن ترسخ الهوية الوطنية؛ فحرب الرمال بين الجزائر والمغرب، والنزاع التونسي-الليبي بل حتى حرب الصحراء لم تشكل في مجملها إلا حروب دول لا حروب قوميات.

– عدم استطاعتها تغيير المحور الأفقي لسكانها؛ فالمغاربيون يتجهون قبل كل شيء إلى مكة التي تعد قطب الرحى في تحديد هويتهم، ويشعرون بانتمائهم للأمة الإسلامية قبل انتمائهم (للأمة الوطنية).

– قصورها عن بلورة ذهنية تاريخية ترتبط بالحدود الوطنية؛ فالتاريخ المشترك للمنطقة يجعل من الصعب القيام بفرز تأريخي للأحداث التاريخية، كما أن نشأة الدولة الحديثة والملابسات التي رافقت هذه النشأة تجعل هذه العملية معقدة، بالإضافة إلى طبيعة الذهنية الدينية العامة التي كثيرا مالا تتقبل مثل هذه العملية).

وأمام هذا القصور؛ فإن الدولة المغاربية قد عرفت فشلا في تبلورها كأداة لصهر هوية وطنية، الشيء الذي جعلها تستمد زخم هويتها من خلال الانغماس في قضايا عربية أو إسلامية:

– فالدولة التونسية قامت منذ نشأتها على محاولة خلق هوية وطنية تونسية من خلال الابتعاد عن كل إطار عربي-إسلامي؛ بحيث كان انتهاجها لخطى العلمنة يقوم على قطع الرابط الإسلامي، في حين كانت سياستها تجاه الشرق الأوسط ومقاومتها للمد الناصري يشكل خطوة ثانية في بلورة هوية وطنية تونسية، لكن سرعان ما عادت الدولة التونسية إلى معين الهوية العربية الإسلامية بمجرد تعرضها لبعض الأزمات السياسية الحادةٍ).

– كما أن الدولة المغربية، رغم جهودها المتواصلة في بلورة هوية سياسية وطنية؛ فإن ارتباطها الكبير بالقضايا القومية يشكل أحد الثوابت الرئيسية في سياستها الخارجية؛ نظرا لأن ذلك يشكل إطارا لإضفاء شرعية على تعاملاتها الخارجية) وصمام أمان لأزماتها الداخلية (أزمة 1973 وحرب الجولان).

– في حين أن الدعوات المتكررة للوحدة من طرف النظام الليبي لا تشكل فقط أزمة هوية وطنية بل هي أيضا انعكاس لأزمة هياكل الدولة الليبية التي لم تستقر بدليل الإنشاء والحذف المستمر والمتكرر لمؤسسات الدولة. لينهار كل ذلك بعد تهاوي نظام الرئيس القذافي بعد مقتله وتفكك مختلف الأجهزة العسكرية والأمنية والقبلية والعائلية التي كانت تحيط به وتدين له.

– أما الدولة الجزائرية التي رغم تجربتها المريرة والطويلة مع الاستعمار الفرنسي، فإن ذلك لم يجنبها الارتباط بمضمون الهوية العربية الإسلامية نتيجة لطبيعة أصول نشأتها.

من هنا نرى أن التقطيع السياسي للمجال المغاربي من طرف الانظمة المغاربية لم يفض إلى خلق وبلورة هوية وطنية تتطابق والحدود السياسية ودعواتها المتكررة إلى الارتباط بفكرة العروبة أو الهوية العربية الإسلامية.

3 – التقطيع الإداري للمجال الوطني:

ورثت الدولة المغاربية الروح المركزية التي كانت تحرك الدولة-الأمة الفرنسية؛ هذه الروح المتولدة عن النمط الإنتاجي الرأسمالي والإيديولوجية البورجوازية الوطنية.

لذا فقد عمدت الدولة المغاربية-وفاء في ذلك للنموذج الأصل-في تقطيع مجالها الوطني إلى وحدات إدارية تقوم بالأساس على الحفاظ على التقسيمات الإدارية الاستعمارية والوحدات الإدارية التي اعتمدتها الدولة الفرنسية في تقسيمها لمجالها الوطني سواء تلك التي تهم المجال المحلي (المقاطعات الحضرية مثلا) أو المجال الإقليمي (العمالات). وقد كان هدف الدولة المغاربية من خلال تقسيماتها الإدارية لمجالها الوطني ضبط بنياتها الاجتماعية والسكانية، وفي الوقت نفسه ضرب كل الهويات المحلية والإقليمية لتحقيق هوية وطنية تتمحور وترتبط بالدولة المغاربية وهياكلها الإدارية. وفي سبيل ذلك قامت الدولة المغاربية باستلهام منطق “التقسيم المركزي” الذي يقوم، كما يشير إلى ذلك نيكوس بولنتزاس، على “تقسيم المجال إلى وحدات مقلصة، مجزأة، متقطعة ودائمة التشرذم…” الشيء الذي جعل الدولة المغاربية تواجه خطر التشرذم؛ بحيث من الصعب جدا “بناء وحدة وطنية في مجال مفكك”، بالإضافة إلى أن مختلف هذه الوحدات الإدارية لم تستطع أن تخلق هوية يرتبط من خلالها الأفراد بالدولة المغاربية المركزية. ومن ثمة حاولت الدولة المغاربية أن تطعم مركزيتها هذه، بمحاولة نهج إداري أطلق عليه رسميا (اللامركزية الإدارية)، والتي اتخذت شكلين رئيسين:

– التنظيم الجماعي

قامت أغلب الدول المغاربية بسن نظام جماعي يقوم بالأساس على الملاءمة بين المصالح المحلية والمنطق المركزي للدولة. إذ حاول في نفس الوقت تأطير البنيات الاجتماعية المصغرة مع الاحتفاظ بإشراف السلطة المركزية. غير أن هذا النظام لم يفلح مع ذلك في عكس وتحريك الفعالية المحلية نظرا إلى عدة عوامل من أهمها:

– هجانة المؤسسات الجماعية؛ بحيث أن التنظيم الجماعي جمع في مضمونه بين تأطير إداري أجنبي (31). وبين فكرة محلية.

– سلب الإدارة المحلية لكل وسائل العمل والتحرك (الوصاية، عدم الإشراف على الأراضي الجماعية…).

– عدم تعبير هذه المؤسسات الجماعية عن إرادة محلية مستقلة “فالنخب المحلية ليست إلا شريحة خاصة داخل موظفي الإدارة المركزية”.

– التنظيم الجهوي

كان التنظيم الجماعي وسيلة من وسائل التدبير المركزي في يد الدولة المغاربية، الشيء الذي أفضى إلى عدم تحقيقه لهوية يمكن أن يرتبط بها الأفراد ويشعرون بالانتماء إليها؛ مما دفع بالدولة المغاربية إلى طرح الجهوية كإطار إداري “لا مركزي” يمكن التعبير عن المطامح المحلية وتأطيرها، وذلك لخلق وبلورة هوية محلية متماسكة. لكن يبدو أن روح المركزة التي تحرك الدولة المغاربية قد جعلت هذا الإطار يعرف بدوره عدة تعثرات. إذ بالإضافة إلى الأهداف السياسية التي تكمن وراء طرح الجهوية؛ فإن هذا الإطار قد كان محكوما عليه بالفشل نظرا:

– لمنبعه الأجنبي؛ إذ أن الجهوية هي قبل كل شيء إطار إداري أفرزته الدولة الفرنسية المركزية بكل ما رافق ذلك من ملابسات وخلفيات معينة.

– وكذا لطابعه “التقني”، إذ أن أغلب الوحدات الجهوية هي وحدات إنتاجية، اقتصادية أو تقنية(32) ولعل هذا، هو الذي أفضى إلى أن أغلب الوحدات الإدارية التي أفرزتها الدولة المغاربية لحد الآن لم تستطع بلورة هويات محلية لتلبية المطالب الاجتماعية الشيء الذي انعكس من خلال حوادث سياسية (أحداث قفصة) أو اجتماعية (الهجرة القروية، الهجرة على الخارج…) أو ثقافية (أحداث تيزي وزو…). من هنا، فإن الجهوية ترتبط بأزمة عميقة تعيشها الدولة المغاربية، حيث تتجسد في صعوبة اختراقها لمجتمعاتها المحلية.

من خلال كل هذا نخلص إلى أن هناك عدم تطابق بين الدولة المغاربية وأسسها المجالية، الشيء الذي جعلها تعاني، في الحقيقة من أزمتين:

– أزمة تكون

وقد حاولت الدولة المغاربية مواجهة أزمة ولادتها وتكونها من خلال التأكيد على مسألة الحدود السياسية (سواء من خلال نزاعات مسلحة أو من خلال عقد اتفاقيات حدود…) في حين لم تكن الدعوة إلى إقامة اتحاد المغرب العربي في أبريل 1958، إلا تأطيرا فكريا وإيديولوجيا للتشبث “بالحدود السياسية الوطنية”.

– أزمة فعالية

في بداية الثمانينات من القرن 21، بدأت الدولة المغاربية تواجه أزمة فعالية تجسدت بالخصوص في تبلور الحركات الإسلامية ونموها على المستوى الداخلي؛ واكتمال تكتل أوروبا الغربية في إطار الاتحاد الأوروبي بما يحمله من انعكاسات خطيرة على المنطقة المغاربية، الشيء الذي قد يكون وراء إحياء فكرة المغرب العربي من جديد في نهاية ثمانينيات القرن الماضي. لكن يبدو أن تأسيس اتحاد المغرب العربي استنادا إلى دوافع سياسية قامت على تكريس سياسة المحاور، وعدم الاستعداد لحل مشكل الصحراء، وغياب الثقة بين الأنظمة المغاربية آنذاك، وعدم إنجاز أي مشروع جهوي ملموس تلتف حوله شعوب المنطقة…، قد جمد كل مؤسسات هذا الاتحاد خاصة بعد رحيل جل مؤسسي هذا الاتحاد إما بوفاتهم كالملك الراحل الحسن الثاني أو الإطاحة ببعضهم كالرئيس التونسي بن علي والرئيس الموريتاني السابق معاوية ولد الطايع ومقتل الرئيس الليبي معمر القذافي.

وبالتالي، فإن الوضع الداخلي للدول المغاربية ومستجدات محيطها الجهوي يفرض على أنظمتها السياسية ونخبها الحاكمة التفكير بعمق في بناء “كيان مغاربي” يقوم على نظرة شمولية للواقع المغاربي تتجاوز رؤى ومصالح اقتصادية خارجية أو حسابات سياسية داخلية ضيقة. ليهتم بالأساس بتوفير الشروط الاقتصادية والسياسية للشرائح الاجتماعية المغاربية العريضة، مع الانطلاق من مسلمات ثلاث:

1) تعويض الحدود السياسية بحدود اقتصادية.

2) ترك المبادرة للهياكل والتنظيمات المحلية.

3) خلق وتكوين تراث ثقافي شمولي مع مراعاة الخصوصيات الثقافية المحلية سواء كانت أمازيغية بتفريعاتها القبايلية والريفية والسوسية أو عربية أو حسانية بدءا من التخلص من التسمية السابقة لاتحاد المغرب العربي وتعويضه بتسمية أكثر شمولية كالاتحاد المغاربي على سبيل المثال.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

    موافق