الإعلام بين أزمنة اليقين واللايقين
د. خديجة الكور
نعيش مع الكاتب جمال محافظ من خلال كتاب “الإعلام في زمن اللايقين” رحلة جديدة في أزمنة الإعلام، بالأمس من خلال حفريات في تاريخنا الإعلامي واليوم بالوقوف على التغيرات الكبرى والمتسارعة التي خلقت حالة للايقين وتأثيرها على الإعلام برؤية تتقاطع فيها مسارات الجمعوي والنقابي والصحفي والباحث والسياسي المنتمي لحزب الوطن حبا وعقيدة وممارسة.
يضم الكتاب مجموعة من المقالات المنشورة للكاتب في فترات وسياقات مختلفة ومتعددة، تم تصنيفها وفق مقاربة موضوعاتية تتناول قضايا الإعلام في علاقته بالسياسة والثقافة، والمؤسسات، والذاكرة والثورة الرقمية والجوار.
لن أتناول كل جوانب هذا الكتاب، سأتوقف بكم لحظة عند الجانب المتعلق بالثورة الرقمية وأثرها على الإعلام في زمن “للايقين” الذي عبر من خلاله الكاتب عن قلقه على مستقبل الإعلام في ظل تحولات جارفة تتقاطع فيها إشكالات الحقل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والإعلامي بأسئلة الاستقلالية والحياد ومآلات بنيات ومؤسسات الإعلام وطرق تفاعله مع قضايا العصر الآنية.
وأود قبل الرجوع إلى هاته الإشكالات التوقف معكم على مفهوم زمن للايقين الذي أصبح يشكل اليوم مدخلا وسياقا لطرح كل الإشكالات المرتبطة بمختلف مناحي الحياة داخل المجتمعات.
مفهوم “للايقين” هو ضد “اليقين”، واليقين هو نقيض الشك. وهو من المفاهيم القرآنية التي تحيل على العلم التام والتصديق الجازم بحقائق الدين سواء ما تعلق بأصوله أو فروعه والذي لا يتم بلوغه إلا بالتعلم والمعرفة الأصلية والنافعة التي تجعل المرء صالحا على مستوى القاعدة النفسية والروحية والسلوكية للوصول إلى اليقين الذي يثبت الإيمان بالله. وهو يرتبط بهذا المعنى بقيم الإخلاص والحق والعلم والطمأنينة وسكينة النفس.
وفي مجال التصوف، يحيل هذا المفهوم على بلوغ مرتبة عالية من مراتب الإيمان. سئل الجنيد عن اليقين فقال “اليقين ارتفاع الشك، وترك ما ترى لما لا ترى، هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يتحول، ولا يتغير في القلب”.
وقد تم الوقوف كثيرا على مفهوم اليقين واللايقين في عدد من العلوم الحية والإنسانية. وقد تميز السوسيولوجي البولندي زيجمونت باومان بكتاباته في هذا المجال خصوصا من خلال مؤلفه “الأزمنة السائلة : العيش في زمن للايقين” الذي صدر عام 2000.
وإذا كان المجال لا يسع هنا للدخول في مضامين هذا الكتاب. أقترح عليكم التوقف على التحولات الكبرى التي رصدها حين اعتبر أن الأزمنة السائلة هي حياتنا في العالم المعاصر، وهي تعاني من تحول هياكل كل المجتمعات من الحداثة الصلبة إلى الحداثة السائلة على عدة مستويات :
– الأشكال الاجتماعية بمعنى الأبنية التي تحدد الاختيارات الفردية والمؤسسات التي تضمن دوام العادات وأنماط السلوك المقبول والتي لم تعد قادرة على الاحتفاظ بشكلها زمانا طويلا، ولا أمل في ذلك لأنها تتحلل وتنصهر بسرعة أكبر من سرعة إعادة تشكلها.
– الانفصال بل الطلاق المعلن بين كل من السلطة والسياسة، ففي هذا الزمن ينتقل جانب كبير من سلطة الدولة الحديثة خارج إطار الدولة بعيدا إلى الفضاء العولمي.
– الانسحاب التدريجي الدائم للدور الاجتماعي للدولة.
– سيولة الأبنية الاجتماعية حيث يصبح التفكير والتخطيط طويل المدى فعلا من الماضي.
– الاستثمار في الخوف : ولعل ما تبشرنا به منظمة الصحة العالمية كل صباح من قرب قدوم جائحة أشد فتكا وشراسة من جائحة كوفيد 19 وأنه سيتم تدبيرها بشكل معولم تحت رعاية المنظمة التي تسهر على حماية السلامة الصحية لمواطني العالم والحال أنه إلى حين قريب كان مجال الصحة يعتبر من أركان حماية النظام العام، تشكل مظهرا من مظاهر عولمة الخوف.
إن هذه التحولات تؤدي إلى تفكك منظومة القيم، واتساع رقعة الهشاشة الاجتماعية والنفسية، وهيمنة الفردانية المتوحشة، وطغيان الماديات، واتساع رقعة التفاهة والجهل وسلوكيات الاستهلاك المفرط وتفاقم الفوارق الاجتماعية وطغيان البيروقراطية وتوسع رقعة سلطة المال وتراجع قيم التضامن، وتزايد الشعور بانعدام الأمان وعدم القدرة على استشراف المستقبل.
وتؤثر هاته التحولات المرتبطة بالعولمة والتطور المستمر للرقمنة المفرطة على واقع الإعلام الذي أصبح يعاني من ضغط المنافسة وانتشار الأخبار الزائفة، وندرة مصادر التمويل، وعدم نجاعة أغلب النماذج الاقتصادية للمقاولة الإعلامية، وتطور سيل تدفق المعلومات وتعدد مصادره وتعقيد مسالك التحقق من مصداقية الأخبار والمعطيات وصعوبة الحفاظ على الاستقلالية والحياد في زمن “التحكم العولمي”، وصعوبة التكيف مع مستجدات التطورات التكنولوجية والرقمنة وتعقد مسالك بناء الثقة مع الجمهور وصعوبة الالتزام بأخلاقيات المهنة في سياقات التدافع والمنافسة الشرسة على السبق في الأخبار وكلها إشكالات تعرض لها الكتاب في الفصل المتعلق بالإعلام في ظل الثورة الرقمية.
يتحدث الكاتب عن موضوع الأخبار الزائفة في الزمن الرقمي والصحافة والحصار الرقمي والانترنيت بين الإقبال والتوجس، وإشكالية تحويل التفاهات إلى قدوة ونجوم ومشروع تقنين الشبكات خارج الزمن الإعلامي والانترنيت كسبورة للمستقبل.
وقد تناول الكاتب موضوع الأخبار الزائفة بين الأمس واليوم من خلال مداخلات المرحوم علال الفاسي أمام أول برلمان عرفه المغرب سنة 1963 حين قال “نجد الرأي العام مهددا بكثير من المضللات التي تحيد به عن طريق الصواب” وحمل المسؤولية آنذاك “لقوة المال ورجالها” وخلص إلى القول “إذا كانت الحرية ستحرقنا فلنفعل، فإنها على كل حال خير من الضغط، ومن التغذي بأفكار تنظمها عبادة القوة أو عبادة المال”.
وفي موضوع الصحافة والحصار الرقمي، انتصر الكاتب للحرية معتبرا مع الكاتب ريمي ليفي أن عالم التكنولوجيا الرقمية، يشكل وسيلة للتحرر والهيمنة في نفس الوقت، وفي كل الأحوال فإنه لا يزال في الوقت الراهن وعدا وتحديا.
وفي علاقة الصحافة الثقافية بالاكتساح الرقمي، يعتبر الكاتب “بأن الضحل طفا والعميق توارى” إلا أنه ورغم ذلك نحن في حاجة إلى الانتصار للاستثناء الثقافي لمواجهة التفاهة بما يضمن قلب المعادلة التي تراهن عليها السلطة السياسية من أجل فرض “النموذج الواحد” خاصة إذا كان النموذج مرتبطا بالقولبة والاستهلاك.
وتناول الكاتب أثر جائحة كوفيد على الممارسة الصحفية، وعلاقة المدرسة بالإعلام، والانترنيت كسبورة للمستقبل مؤكدا في هذا الباب على ضرورة تأهيل منظومة التكوين والتربية وانخراط المجتمع المدني والإعلام في الاستثمار الأفضل للتكنولوجيا الحديثة في بناء المعرفة والهوية والسلوكيات لدى الجيل الناشئ “فالمواطنون الرقميون لا يعنيهم اليوم، بل يريدون أن يعرفوا عن الغد، لذا يعد اندماج المؤسسات التربوية في مجتمع الإعلام والمعرفة ضرورة حتمية من أجل التطور، وليس ترفا شكليا أو فكريا”.
ينتصر هذا الفصل من الكتاب حتى ونحن في “زمن اللايقين” لإمكانية تجدد الإعلام ونهضته واضطلاعه بأدواره في الإخبار والثقافة وتشكيل الرأي العام، وبناء التمثلات الإيجابية ومحاربة التضليل، والتزام الاستقلالية والحياد والانتصار لقيم الحرية والمسؤولية وأخلاقيات العمل الصحفي وتكريس الاستثناء الثقافي.
إن تمثل الأفق والمستقبل بنبرة تفاؤلية هي مقاربة تؤشر على عدم الإيمان بحتمية “زمن للايقين” الذي أصبح البعض يعتبر أنه “اليقين الوحيد المتاح اليوم”. وأنا أعتقد أننا نعيش في زمن الصراع الحاد بين قيم وثوابت زمن اليقين وللايقين، بمنطق نظرية التدافع بين الخير والشر والشيء ونقيضه التي اتسم بها تاريخ البشرية منذ البدء.
ورغم كل مظاهر التيه التي تطبع عالم اليوم، وأساليب التحكم في الإنسان، ومحاولات تأييه الفرد والتشكيك في اليقينيات الكونية الكبرى، وانتشار ثقافة التفاهة وسلوكيات تصديق الكاذب، وتكذيب الصادق، وتخوين الأمين وتأمين الخائن، يجب أن نظل من الثابتين القابضين على الجمر انتصارا للإنسان في أبهى حلله وتجلياته”.
نص مداخلتي في لقاء تقديم كتاب “الإعلام في زمن اللايقين” للصحفي جمال المحافظ يوم الأحد 11 يونيو 2023 ضمن البرنامج الثقافي للدورة 28 للمعرض الدولي للنشر والكتاب المنعقدة ما بين 01 و11 يونيو 2023 بالرباط
عذراً التعليقات مغلقة