البكالوريا ….القوة والضعف
بقلم: ذ. إبراهيم أونبارك
يتجدد اجتياز امتحانات البكالوريا ببلدنا كل سنة، وتتجند له كل الأطراف وينخرط في إنجاح هذه المحطة من الزمن المدرسي كافة الفاعلين بلا استثناء، الإعداد له يتخذ مشارب ومتاهات، تباشر المؤسسات العمومية والخصوصية، كل حسب قدراتها وإمكانياتها، يبذل الأساتذة مجهودات استثنائية مع تلاميذ وتلميذات المستويات الإشهادية عموما والثانية بكالوريا خصوصا. بل يعتبر التعامل مع هذا المستوى مخالفا ومتميزا عن المستويات والأسلاك قبله، حيث يعطى تدريسه لأجود الأساتذة والأستاذات و أكثرهم كفاءة.
إلى حد الآن، كل شيء يسير وفق المبتغى، إلا أن “البكالوريا” تطرح تحديات، وتختزل المعيقات التي ظلت تجثم على كاهل النظام المدرسي المغربي وبقي متخبطا فيها، ويمكن اجمالها في المداخل الآتية:
– مقررات البكالوريا: لا أحد يشك في كون معضلاتنا في النظام المدرسي المغربي هو انبهارنا بثقافة الكم التي تتصف بها الأنظمة التربوية الفرنكفونية، إذ يقاس ذكاء المتعلم ونقطة قوته ومستواه بكم المعلومات والمواد الدراسية التي يدرسها، وهذا ما أدى إلى كثرة المواد والمجزوءات والمفاهيم والمحاور التي يعاني المتعلم(ة) والمدرسة والأسرة في سبيل ضبطها.
– لغة/ لغات البكالوريا: تلميذ البكالوريا مجبر على الـتأرجح يوميا بين ألسنة عديدة، فيها المدرسي وغير المدرسي، الرسمي وغير الرسمي، من العربية الدارجة والأمازيغية في البيت إلى العربية والإنجليزية والفرنسية داخل الفصل الدراسي. ورغم أن الوزارة الساهرة على القطاع دأبت خلال السنوات الأخيرة على”فرنسة” المواد العلمية، لكن هذا في حد ذاته كرس أزمة اللغات، وهكذا قادت هيمنة الفرنسية في مواد بمعاملات أعلى، إلى جعل اللغات التي تدرس بها المواد الأخرى مجرد لحظة عابرة، فالتلاميذ يرون أن اللغة العربية مثلا “لن يتم اللقاء بها إطلاقا بعد الباكالوريا” على حد تعبير بعضهم، لذا، تكون كل وسائل الغش من أجل الحصول على نقطة في موادها مشروعة بل محمودة، لكونها لغة مكملة، وموادها ستخفت أمام المشروع المستقبلي للمتعلم لا محالة.
– تقويم البكالوريا: لابد أن يكون تقويم مكتسبات متعلم (ة) قضى ما يفوق العشر سنوات من التعليم المدرسي شاملا ودقيقا ويستهدف رسم المعالم الكبرى لشخصية المتعلم المستقبلية، إلا أن مسار التعلمات خلال هذه السنوات يبدو أنه أكثر استهدافا للحفظ والترديد وضبط قواعد إعادة إنتاج نفس المعلومة وفي جميع المواد العلمية والأدبية ودون استثناء. لذا، فالرتابة أصبحت مؤشرا للتقويم لكون الابتكار المعرفي والإبداعي والمنهج والبيداغوجي والديداكتيكي أضحى أمرا معدوما، ليكون تحنيط الممارسة الفصلية بمثابة براديغم نهائي ومطلق، ومنه، ليس بغريب أن يكون التقويم معاناة لكل الأطراف المنخرطة فيه ومصداقية التأشير بالنجاح هو تحدٍّ ما بعده تحد.
– ما بعد البكالوريا: تتيح شهادة البكالوريا، عموما، الولوج إلى معاهد ومدارس عليا، لذا، تعتبر طموحا مرغوبا في تحقيقه بالنسبة للجميع، إلا أن السوق المهنية marché professionnel باتت هي المهيمنة على طبيعة الشهادة الأكثر قبولا وتلك الأقل شأنا، وكرست خريطة مؤسسات التعليم العالي، الخصوصية والعمومية هذا الطابع المهني والتسويقي لشهادة البكالوريا، وأضحت المنافسة بين هذه المؤسسات تعوزها المصداقية في الكثير من الأحيان، حيث تمنح الأولوية لذاوي الحظوة المالية الذين يمكنهم الدخول إلى معاهد/ مدارس عليا خصوصية رغم ضعف معدلاتهم، بل قد يتلقون تكوينا أفضل من ذاك الذي يمكن أن يستفيد منه من تمكن من ولوج المؤسسات ذاتها في القطاع العمومي بمعدلات جيدة في البكالوريا وبـ “ميزات” أفضل. لذا، ستكون نتائج هذا الوضع غير مرضية على مستوى الخدمات التي ستقدمها المؤسسات العمومية مستقبلا، لاسيما في القطاعات الحيوية وذات التعامل المباشر مع المواطنين(الصحة، التعليم، التدبير الحضري، تدبير السياسات العمومية …). مما سيحدث شرخا اجتماعيا وتكريسا مهولا للطبقية في الاستفادة من خدمات هذه المؤسسات العمومية والخصوصية.
عموما، قدمت المدرسة المغربية كفاءات، ومازالت شواهدها العلمية تنال مصداقية مشجعة للسير قدما نحو الافتخار بمنجزات أبناء وبنات هذا الوطن، لكن تنقية الشوائب والمعيقات المرتبطة بالإصلاح لابد أن تكون هما ملقا على عاتق كل فاعل تربوي، ومن أهم المقترحات الممكنة لتجاوز العديد من العوائق المشار إليها أعلاه:
– إعادة النظر في المقررات الدراسية والتقليص من عدد المجزوءات والمفاهيم والوحدات المدرَّسة، حتى يتنسى للأستاذ (ة) أخذ الوقت الكافي من أجل بناء قضايا علمية أو أدبية أو فلسفية أو لغوية وفق الزمن المناسب لمناقشتها والتحصيل فيها دون ضغط يسبب إرهاقا للمدرس والمتعلم على حد سواء.
– امتلاك “الجرأة”، التي ما فتئ صاحب الجلالة نصره الله يرددها في خطاباته، وتوج حضورها – أي الجرأة- في التقرير النهائي للنموذج التنموي الجديد، خصوصا في اختيار لغات “الانفتاح العلمي” والتقني والحضاري” بعيدا عن “سمفونية الاستعمار” التي لم تعد تطرب، لأن المغرب تخطى المرحلة بحلوها ومرِّها، ويمتلك كل السيادة للاختيار في بناء منظومته التعليمية،
– تقوية “المراقبة البعدية” ونزع فتيل المنافسة ” غير العلمية” و “اللاتربوية” أحياناـ التي تسكن سلوكات ومؤسسات، تقدم عروضا، غرضها نيل الربح المادي بدل ربح رهان بناء الإنسان الذي بمقدوره أن يقدم خدماته وقدراته لأبناء وبنات هذا الوطن وللإنسانية جمعاء.
عذراً التعليقات مغلقة