لماذا صوت حزب الحركة الشعبية على قانون الإضراب؟

18 فبراير 2025
لماذا صوت حزب الحركة الشعبية على قانون الإضراب؟

المعركة

لماذا صوت حزب الحركة الشعبية على قانون الإضراب؟

بقلم: مصطفى البوزيدي

كلما تعرض حزب الحركة الشعبية لهجمات مغرضة وحملات تشويش بسبب مواقفه الجريئة من بعض القضايا الوطنية من قبيل ما يتعرض له حاليا جراء تصويته لصالح القانون التنظيمي رقم 97.15 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب، يحضرني تصريح للزعيم السابق للحزب، السيد امحند العنصر، الذي أكد في أحد حواراته أن حزب الحركة الشعبية لم ينخرط في الصراع الأيديولوجي بين الأحزاب الليبرالية والاشتراكية بعد الاستقلال لأنه ببساطة استمد مبادئه من القيم الوطنية الأصيلة من مؤسسيه المنتمين إلى جيش التحرير، وهذا ما جعله حزبا وسطيا منفتحا على جميع التحالفات دون خطوط حمراء. وقد لا يفهم الكثيرون، ممن يعجزون عن التفكير خارج الصندوق هذا القول الحكيم، تماما كما لن يفهم أصحاب النظرة النمطية لمعنى “المعارضة السياسية” الدوافع الحقيقية التي جعلت الحزب يصوت لصالح هذا القانون، لا سيما وأن أصحاب هذه الرؤية المبسطة للحياة السياسية يرهن موقف الحزب بموقعه وليس بقناعاته ويختزل دوره في معارضة الحكومة لكسب التأييد الشعبي بغض النظر عن مضمون القرارات، حتى لو طغت عليها الشعبوية.

وعلى النهج الحنيف للأسلاف من الآباء المؤسسين للحزب، وتعقيبا على الجدل المثار حول تصويت الحزب لصالح قانون الإضراب، زكى الأمين العام للحزب الأخ محمد أوزين، في مقال له صدر مؤخرا ما جاء في بيان المكتب السياسي قائلا إن الفلسفة المؤطرة للتشريع الحركي تخدم الوطن والمجتمع ولا تقارب التشريعات بإملاءات الموقع، ولا بنفس شعبوي متلون، وذلك من منطلق أن الحركة الشعبية تشرع للوطن وللمواطن بصدق القناعات وليس لخدمة أجندات أو أيديولوجيات أو فئات، مشددا في نفس الوقت على أن التشريع ليس مجرد استجابة لضغط طرف دون آخر، وإنما هو مسؤولية تسعى إلى تحقيق التوازن بين حقوق العمال والمقاولات، مع الحفاظ على استقرار الاقتصاد الوطني، ومضيفا أن الحزب لم يتخذ قراره إلا بعد دراسة معمقة للقانون وإدراكه للحاجة إلى تنظيم الممارسة النقابية دون المساس بجوهر الحق في الإضراب.

من هذا المنطلق، وضمن هذا التصور، ارتكز إذن موقف حزبنا في دعم مقترح قانون الاضراب على مثلث من ثلاث زوايا ودعائم صلبة، ومنهما استقينا القناعة السياسية بضرورة التصويت عليه، مع وعينا الراسخ بوجود تجارب دولية مشابهة تؤكد أن مثل هذه القوانين الحساسة المثيرة للتجاذبات السياسية وللمزايدات السياسوية قلما تنجو من عمليات الافشال ونادرا ما يقع عليها الاجماع. بمعنى أن معظم التشريعات المتعلقة بتنظيم حق الإضراب في تجارب دولية مشابهة بل وفي دول مشهود بعراقة ديمقراطيتها، لم يكن فيها هذا القانون بمنأى عن الجدل. ففي دول الاتحاد الأوروبي سبق أن اصطدم هذا النوع من القوانين بمعارضة قوية من النقابات التي اعتبرته تقويضا للحق النقابي، فيما رأت فيه الحكومات ضرورة قصوى لحماية الاقتصاد. في فرنسا، مثلا، تخضع الإضرابات في القطاعات الحيوية مثل النقل والصحة لقوانين صارمة تُلزم النقابات بضمان حد أدنى من الخدمة. أما في إسبانيا، فيشترط المرسوم الملكي بمثابة قانون رقم 17/1977 الصادر بتاريخ 4 مارس 1977 إشعارا مسبقا بالإضراب مع تشكيل لجنة للتفاوض قبل اللجوء إليه. وعند قراءة المزيد من هذه المواد في القوانين الأوروبية، يتضح أن قانون الاضراب الذي صُوت عليه في البرلمان المغربي بالأغلبية مستوحى بشكل كبير من القوانين الأوروبية ولاسيما من اسبانيا وفرنسا. وعلى النقيض، وهو مثال سيء، تفرض مصر في قانونها المنظم للإضراب قيودا أكبر، حيث يخضع الإضراب في القطاع العام لموافقة الحكومة يجعل ممارسته أكثر تعقيدا. هذا فضلا عن تضمن القانون المصري لعقوبات جنائية تصل إلى الفصل من العمل وغرامات، وأحيانا الحبس في حالات الإضراب غير القانوني.

ولا يهمنا من هذه المقارنة البسيطة تنزيه قانون الاضراب المغربي عن العيوب أو وضعه في مصاف قوانين الدول المتقدمة، بقدر ما يهمنا محاولة إيجاد أجوبة عن أسئلة أعمق حول ما إذا كان القانون التنظيمي رقم 97.15 قد صيغ فعلا بفلسفة واضحة وبمقاربة كفيلة بتحقيق توازن بين حق الإضراب كآلية نضالية تقوي القدرة التفاوضية للنقابات للدفاع عن حقوق الأجير، وبين الحاجة إلى استقرار الاقتصاد وضمان استمرارية عمل المرافق الحيوية؟

بكل حيادية، يمكن التسليم بأن القانون الحالي التأسيسي يتضمن عدة مقتضيات جوهرية تعزز قناعتنا بأهميته في تحقيق التوازن بين مختلف الأطراف المعنية. ومن أبرز هذه المقتضيات أن المشرع يقر صراحة بحق الإضراب، ويمنع أي شكل من أشكال التمييز ضد المضربين، كما يؤكد أن ممارسة هذا الحق لا يمكن أن تكون مبررا للفصل من العمل. في المقابل، يضم القانون أيضا بين دفتيه ما يمكن اعتباره تقييدا للممارسة النقابية. فعلى سبيل المثال، وكما هو شائع في جل البلدان، يمنع القانون المغربي حق الإضراب عن بعض الوظائف الحساسة في الدولة مثل حاملي السلاح، ويفرض على النقابات والأجراء في باقي الوظائف الامتثال لإجراءات تنظيمية صارمة، مثل ضرورة الإخطار المسبق الذي قد يصل إلى 45 يوما في بعض الحالات، والالتزام بضمان حد أدنى من الخدمة في بعض القطاعات الحيوية. ولا شك أن هذين الشرطين الأخيرين يقلصان من فعالية الإضراب كأداة ضغط ويحدان من تأثيره، إلا أنهما في الوقت ذاته يشكلان آليات وقائية تحمي المجتمع من السقوط في الفوضى، وتجنب المرافق الأساسية كالصحة والنقل من الوقوع في شلل تام، وتضمن كذلك استمرارية عمل بعض سلاسل الإنتاج الحيوية للدولة والمجتمع.

وقد يذهب الكثيرون ولاسيما النقابيون والأجراء إلى اعتبار هذه البنود أكثر ميلا إلى خدمة الباطرونا وإلى فرض ضمان استمرارية العمل أكثر مما تميل إلى حماية وتعزيز القدرة التفاوضية للعمال، غير أنه من وجهة نظر السياسيين وصناع القرار يظل هذا الميل مقبولا ومبررا وبراجماتيا بالنظر إلى السياق الاقتصادي العام للمغرب كدولة صاعدة وكوجهة مفضلة للاستثمارات في أفريقيا، وكدولة مقبلة على احتضان مونديال 2030.

بعبارات أخرى، يتطلب تحقيق استقرار سوق الشغل والحفاظ على جاذبية الاستثمارات سن قانون يكون بمثابة عامل جذب لا عامل نفور لرؤوس الأموال، المعروفة بكونها جبانة بسبب حساسيتها الشديدة من مناطق الخطر، يجعلها بحاجة بشكل دائم إلى بيئة آمنة ومستقرة، مدعومة بضمانات قانونية وأمنية، وفي مقدمتها تثبيت وترسيخ السلم الاجتماعي. بمعنى آخر، أن أي إطار قانوني ينظم حق الإضراب ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار هذه المعادلة الدقيقة حتى لا يتحول إلى مصدر اضطراب يهدد مناخ الاستثمار، ودون أن يؤدي في الجانب المقابل إلى تقييد مفرط للحقوق النقابية. إذن التحدي الأبرز يكمن في تحقيق توازن يضمن للعمال حقهم في الإضراب كوسيلة نضالية تقوي قدرتهم التفاوضية، مع الحرص، في الوقت ذاته، على تجنب أي تأثير سلبي على استقرار الاقتصاد وعلى استمرارية المرافق الحيوية. وبطبيعة الحال، تضع الدول والحكومات وضمنها المغرب هدف ترسيخ السلم الاجتماعي واستدامته على رأس أولوياتها لتعزيز مناخ الاستثمار، خاصة وأن الإضرابات والاحتجاجات الاجتماعية غير المنظمة تُعد من أبرز العوامل التي تُثني المستثمرين عن اختيار بلد معين كموقع لمشاريعهم، لا سيما في القطاعات التي تتطلب استثمارات ضخمة مثل الصناعة والطاقة والخدمات اللوجستية.

لذلك، فبالرغم من أن الشروط التي تضمنها قانون الإضراب في المغرب قد تبدو مجحفة بالنسبة للنقابات، فقد راعت بعض مواده متطلبات الاستثمار والأمن الاجتماعي من خلال سنّ مقتضيات تحد من الإضرابات المفاجئة لمنح الشركات الوقت الكافي للتخطيط واتخاذ تدابير احترازية. كما أن اشتراط حد أدنى من الخدمة في القطاعات الحيوية يهدف إلى طمأنة المستثمرين بشأن استمرارية أنشطتهم. ويبدو هذه الشروط وأخرى المضمنة في قانون الإضراب المغربي صيغت بشكل متوازن لا يتعارض في مجمله مع المعايير الدولية المعمول بها في دول الاتحاد الأوروبي أو مع التزامات المغرب تجاه منظمة العمل الدولية.

وبكل موضوعية، فتحقيق التوازن الذي حاولنا إبراز بعض جوانبه في هذا القانون لا يعني بالضرورة تبني الحزب لكل مواده بدون تحفظ. فالحزب يؤمن أيضا بأن أي مقتضيات تُضعف قدرة العمال على المطالبة بحقوقهم قد تؤدي إلى احتقان اجتماعي طويل الأمد قد يضر بمصالح الشغيلة، بل وقد يُفضي إلى أزمات اقتصادية واجتماعية في حال تصاعد التوتر بين الأطراف المتحاورة. وبالتالي، فإن تحقيق الاستقرار لا ينبغي أن يكون على حساب الحقوق المشروعة للعمال، بل عبر مقاربة متوازنة تكفل حماية مصالح جميع الأطراف المعنية.

ولمزيد من التوضيح، هل يعني إقرار الحزب بأن القانون الحالي ليس خاليا من العيوب والنقائص يتناقض مع موقف التصويت لصالحه في قبة البرلمان؟ لا أبدا. لذلك، ثمة نقطتان وجب توضيحهما بهذا الباب، الأولى مرتبطة بقرار الحزب التصويت بنعم عوض الامتناع او الانسحاب من جلسة التصويت، والثانية تهم نظرة الحزب المستقبلية لهذا القانون عندما يصبح على محك التجربة، وقد يكشف عن مواطن قوة وضعف غير متوقعة خلال الممارسة الميدانية.

بخصوص النقطة الأولى، قرر الحزب التصويت بنعم من منطلق قناعته ان التعديلات التي طالب بها في جلسات اللجان الموضوعاتية قد استجيب لجلها، وبالتالي لم يعد هناك مبرر أخلاقي لمعارضة ما هو راض عن جوهره وأغلبية بنوده، رغم اننا كنا نمني النفس أن تنجح الأطراف الأخرى المتحاورة وخاصة النقابات المعارضة بإقناع الحكومة بجدوى تعديلاتها المقترحة. وتفاديا لهذا اللغط المفتعل، كان بإمكاننا ممارسة حقنا في التعبير عن موقفنا من خلال آلية “الامتناع”، باعتبارها شكلا من أشكال التصويت الديمقراطي الى جانب “نعم” او “لا”، إلا أن هذه الآلية لا تعبر عن مبادئنا كحزب حر له استقلاليته، كما لا تعبر عن هويتنا السياسية المتصفة بالوضوح والجرأة والابتعاد عن الحربائية السياسية والحسابات الضيقة. وبنفس القدر، كان بإمكاننا أيضا الخروج من الباب الخلفي للبرلماني باتخاذ موقف “الانسحاب” من جلسة التصويت مع إثارة بعض الضجيج، إلا ان ذلك، بالنسبة لنا، يعد خيانة للأمانة التي طوق بها أعناقنا جزء من الشعب المغربي الذي منحنا ثقته من أجل تمثيله في المؤسسات التشريعية وحضور الجلسات والتصويت على القوانين.

قد نختلف حول هذا السلوك سياسيا وقانونيا بحكم ان الدستور لا يجرمه، غير أنه من وجهة نظرنا يُعتبر “الانسحاب” من جلسات التصويت تصرفا غير متوافق مع المبادئ الدستورية والأعراف البرلمانية في أغلبية دول العالم التي تُلزم النواب بالمشاركة الفعالة في العملية التشريعية والتعبير عن مواقفهم من خلال التصويت بآلياته الثلاثة المتعارف عليها. ويمكن هنا استحضار العديد من تجارب البرلمانات الدولية العريقة التي تحظر على النواب الانسحاب من جلسات التصويت مثل البرتغال وروسيا وكوريا الجنوبية والصين وأيضا جارتنا المملكة الاسبانية، إذ تنص المادة 80 من القانون الداخلي لمجلس النواب الإسباني أنه: “لا يجوز مقاطعة عمليات التصويت لأي سبب كان. وخلال التصويت، لا يمكن للرئاسة منح الكلمة لأي نائب، ولا يُسمح لأي نائب بدخول القاعة أو مغادرتها”. وتحظر الأحزاب السياسية البريطانية على نوابها الانسحاب تحت طائلة عقوبات قاسية.

وبما ان الانسحاب -من الناحية الدستورية- لا يبطل شرعية التصويت طالما توفرت الأغلبية المطلوبة، فإن خيار التصويت مع إثباته للتاريخ في محضر رسمي داخل المجلس يبقى أكثر تأثيرا من الناحية القانونية ويجنب التأويلات التي تجعل من الانسحاب مجرد تكتيك يخطط له البعض في الغرف المغلقة أو لمجرد إثارة للغبار من أجل كسب سياسي مشبوه، لاسيما مع توفر أدوات تشريعية أخرى متاحة مثل تقديم تعديلات أو اللجوء إلى المحكمة الدستورية لاحقا للطعن في القانون، والتي تظل خيارا أكثر فاعلية من الانسحاب.

أما بخصوص النقطة الثانية، فرغم الجدل الذي رافق قانون الإضراب والذي صودق عليه بالأغلبية، فإنه لا يمثل للحزب نهاية لمسار الإصلاح، بل يشكل نقطة انطلاق نحو تنظيم أكثر عدالة لعلاقة الشغل باعتباره تجربة أولى في تقنين الاضراب بالمغرب. ولا شك أن التنزيل العملي للقانون سيمكن من الكشف عن ثغرات وتحديات ستستدعي تعديلات وتطويرات لاحقة، وهذا ما يجعل منه في الوقت الحالي لبنة أولى في البناء التشريعي في هذا المجال، وخطوة تأسيسية قابلة للتجويد والتصحيح بدل من اعتباره قانونا نهائيا لا يقبل التغيير، شأنه في ذلك شأن الكثير من القوانين التي عرفت تطورا كبيرا بفعل دينامية البحث والاجتهاد والتجديد وفي مقدمتها مدونة الصفقات العمومية وأيضا مدونة الشغل التي تحتاج الى مقال مستقل.

وفي الختام، نعيد بصيغة أخرى ما قاله السيد الأمين العام للحزب بأن البرلمان هو المؤسسة التي تُشرع لقوانين الوطن لذلك تعامل الحزب مع قانون الإضراب بمنطق الدولة، وليس بمنطق طرف ضد طرف آخر. ولم يكن تصويتنا على هذا القانون انتصارا لرجال الأعمال على حساب المأجورين، ولا انتصارا للنقابات على حساب التنمية، بل كان تصويتا من أجل ان يكون هذا القانون جسرا يحقق توازنا حقيقيا يحفظ الاستقرار الاجتماعي ويحقق التنمية الاقتصادية لمغرب هو في أمس الحاجة اليوم الى تعزيز ترسانته التشريعية بقوانين جديدة متماسكة ولحماية أمنه القانوني، ولمغرب أيضا هو في أمس الحاجة إلى إدارة أكثر ذكاء من هذه الحكومة المتهمة بانتصارها لمصالح الباطرونا من أجل توضيح العلاقة بين العمل ورأس المال، حتى يكون التشريع في خدمة الوطن بكل أطيافه، وليس لفئة دون أخرى.

 

 

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

    موافق