لروحك رثاء نوال السعداوي
بقلم الأستاذة حسناء شهابي
عند رحيل العظماء تنقص الأرض من أطرافها، تنطفئ المنارة وتغيب إشعاعات نورها. عندما يغادرنا العظماء تنفطر القلوب، لكونهم حماة تطوير الفكر والتحرر، وصمام اجتهاد في تقويم اعوجاج المخلفات التقليدية والمواريث الفكرية القديمة.
لا نرثي اليوم امرأة عادية أو شخصية عابرة أو حتى أحد رموز الدول المترامية من المحيط إلى المحيط بل رمزا من رموز البطولة بالمؤنث. لهذا نقف اليوم بمشاعر صادقة وعميقة تعتصر فيها الحسرة والألم في موقع رثاء امرأة جندية الحرية في كل الجبهات.. امرأة ولدت بروح قتالية، ولجت ميدانا افترسته وحوش التحلل القيمي والعقدي في حقبة الحداثة الزائفة، امرأة من العيار الثقيل عملت ليل نهار لإماطة اللثام عن أحقية المرأة في زمن التعسف والقمع والردة عن المبادئ الناصعة والمعاني الجميلة.
نوال السعداوي امرأة ليست ككل النساء..مناضلة ليست ككل المناضلات ومفكرة ليست ككل المفكرين. فما تركته السيدة الفذّة بين دفتري كتبها وروايتها التي تتقاطر من صفحاتهم المضيئة كل صور مكافحة المحظورات جعل منها منبع العطاء والإبداع والتخلص من قيود الخضوع والخنوع، يضعها حتما ودون جدال في المرتبة الأسمى التي لا يجاورها فيها إلا فئة قليلة من مفكرين بالغي الاستثناء والتميز والإبداع في العصر الحديث.
لم تكن امرأة متوحشة وخطيرة كما ادعى البعض بل الحقيقة التي تعبر عنها هي التي تشكل التوحش والخطر على البعض. لقد قادت نوال السعداوي حربا فكرية بدفع الماء الراكد في الكثير من القضايا النسوية قصد تصحيح المفاهيم الخاطئة حول المرأة وجسدها ورفعت راية الكرامة والتحرر عاليا، وحملت على أكتافها مهمة إعادة بناء فكر الحضارة والحرية بعيدا عن آفات التعصب الديني. فضلا عن ذلك مثلت مدرسة فكرية كبرى متكاملة الأبعاد والزوايا، وموسوعة فكرية تحررية شاملة طبعت بصماتها المؤثرة في كل مكان تاركة آثارها العميقة في حياة المجتمعات العربية.
معظم كتاباتها اعتبرت صدمة في أوساط المحافظين وجعلتها عرضة للاتهامات بازدراء الأديان. وبرحيلها سيفضح الإفلاس الثقافي والفراغ الفكري العميق أمام أبواق التسلط الفكري المتطرف نظرا لما تتمتع به من شجاعة فكرية ومواقف جريئة وأفكارها الرافضة للقيم الموروثة واستماتها في الدفاع عن القضايا النسوية وبذلك استطاعت كسر المحظورات وربط بين تحرير المرأة وتحرير الوطن سياسيا وثقافيا. اليوم، تفتقد الساحة الفكرية مقاربة الحداثة بالمفهوم الحقيقي وليس بالمفهوم الذي يصادم الدين والعقائد والمقدسات، وليس حتى بمفهوم مجتمعي يعزف على وتر السياسة النظيفة غير الملوثة بأدران الكذب والخداع والتضليل.
في رثاء روحها أؤكد أن تهمتها هي “امرأة حرة “تعيش في زمن لم تخافه بل أخافته. لعلني عند رحيلها أتذكر عندما قالت في إحدى برامج الحوارية إنها لا تخاف الموت، مؤكدة كطبيبة “أن الإنسان لا يشعر بشيء لتوقف جميع حواسه”.لكن نحن بحواسينا شعرنا بألم رحيلك …رحلت نوال السعداوي عن مشهد الحياة بصمت، وانطوت صفحة جسدها الهرِم، لكن فكرها المبثوث ما زال متأججا يافعا يحمل الراية ويقود المسير إلى حيث الكرامة.
عذراً التعليقات مغلقة