ربع قرن من حكم الملك محمد السادس (1999-2024)
الجزء الأول
بقلم: د.عبد النبي عيدودي
- باحث في الشؤون الدينية والسياسية
- مدير المركز المغربي للقيم والحداثة
ربع قرن مرت على اعتلاء ملك البلاد محمد السادس عرش أسلافه الميامين .. ربع قرن بدون توقف عن العمل و البناء للوطن و مؤسساته .. ربع قرن و هو يعمل رغم الداء و الأعداء بكل شغف و نبوغ ، وحب وفير للشعب و للوطن و للبشرية جمعاء .. ربع قرن من الحكم الرشيد ، الحكيم المتبصر للمملكة المغربية الشريفة في محيط دولي مرتبك، متحرك و السريع ، محمل بالأزمات و الأحداث الدولية الكبرى.. ربع قرن و هو يقود المملكة بسلام وأمان وسط وضع إقليمي متوتر و سياق دولي مطبوع بالأزمات تلوى الأزمات .. لكن رغم كل هذه الصعاب الاقليمي و الدولي استطاع فتح أزيد من (20) ورش ملكي وطني قاد بهم الأمة المغربية إلى مصاف الدول الصاعدة نحو الدول الديمقراطية و دات سيادة اقتصادية .
و في هذه المقالة سأتناول العديد من الأوراش الملكية حسب الترتيب التالي:الاول سيخصص لاعادة هيكلة حقل ديني ويتبع بمشروع الحكم الذاتي و التفوق الدبلوماسي بفتح معبر الكركارات، مع اعادة تقوية المؤسسة العسكرية جويا وبحريا وقاريا.. نتج عنه بزوغ قدرة وطنية كبيرة في مواجهة الكوارث الطبيعية (كوفيد-19 – زلزال الحوز).. ناهيك عن النجاح في طي صفحة الماضي و تحقيق المصالحة و جبر ضرر.. و العمل المتواصل لتمكين المرأة من حقوقها الكونية ، و كذا دسترة ملكية برلمانية اجتماعية و مأسسة دولة الحق والقانون بقوانين ساهمت في تثبيت مفاهيم الحقوق و الحريات نتج عنه بزوغ مفهوم جديد للسلطة، و نبوغ اقتصاد مغربي و صموده في وجه التقلبات الدولية .. مما ساعدك على تأسيس الدولة الاجتماعية ، مع بداية نشأة الدولة الصناعية و تفوقها في قطاع صناعة السيارات و الطائرات ، مصحوبة بتأهيل المقاولات الوطنية ودمجها في الاستثمارات الدولية .
كما سهر جلالته على تأهيل القطاع الرياضي بتأسيس مراكز و معاهد رياضية ساهمت في تجويد النتايج الرياضية ، و تأهيل الموانىء الوطنية ، مع نشأة سوق مالي قوي ببرصة البيضاء ، و خلق مشاريع ملكية ببصمات عالمية ( كبرج محمد سادس- مسرح محمد سادس – ميناء الداخلة الأطلسي على مساحة 1800 هكتار ..) .. و حضور أفريقي ملكي وازن ببعد سياسي و ديني و تاريخي ، توج بانخراط دولي في مشروع ملكي واعد يهدف لخلق منطقة استثمار بالساحل الأفريقي الأطلسي.
1- إعادة هيكلة الشأن الديني في بداية سنة 2000 و هو من أعظم الاوراش الملكية الكبرى ، بل من أجلها شأن و أعلاها منزلة ، فصاحب الجلالة والمهابة محمد السادس نصره الله بصفته أميرا للمومنين اهتم بليغ الاهتمام بالشأن الديني المغربي الاسلامي وأعاد هيكلته بشكل يتماهى مع التحولات والمستجدات الإقليمية، و يوحد الخطاب الديني المغربي داخل وخارج المملكة ، وتتجلى هذه الهيكلة أيضا في احداث أزيد من 20 آلية من آليات تأهيل الشأن الديني منها على سبيل الحصر ، إحداث مديرية المساجد وأخرى للتعليم العتيق بوزارة الأوقاف، تحيين المجلس العلمي الأعلى و توسيع حضوره وطنية واقليميا و دوليا .. وإحداث هيئة علمية مكلفة بالإفتاء، إطلاق إذاعة وقناة محمد السادس للقرآن الكريم، إحداث مجلس علمي أوربي.. إحداث معهد محمد السادس للعلماء الأفارقة .. و مركز محمد السادس لتكوين الائمة المرشدين و المرشدات ، الذي اصبح قبلة للقيميين الدينين من مختلف البلدان .. حتى أضحى النموذج الديني المغربي مطلب جميع الدول الأفريقية و الاوربية في فهم وسطية الإسلام و اعتداله .. بل أثبت نجاحه في محيطه الدولي أما فشل النموذج الوهابي الجهادي ، و الشيعي الارهابي الصفوي ، و كذا تراجع تيار الإخوان المسلمين بعد فشل تجربتهم في الحكم بعد رياح الربيع العربي.
2- إطلاق مشروع الحكم الذاتي في 2007 شكل تفوق دبلوماسي كبير و اعطى نفس جديد للامة المغربية في الذود عن وحدتها الترابية : فتوالت الاعترافات و الحمد لله ،و توالت الاقرارات بمغربية الصحراء ودعم مقترح الحكم الذاتي، أهمها و أعظمها ،اعترافين بارزين في الدبلوماسية الدولية و المنتظم الأممي ، وهما اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية و اعتراف إسرائيل ، حيث وصلت نسبة الاعترافات بمغربية الصحراء 84% داخل منظمة الأمم المتحدة ، ما يجعل المغرب يتفوق دبلوماسيا في هذا المضمار، هذا وقد أيدت دول الاتحاد الاوربي مقترح الحكم الذاتي الذي يطرحه المغرب كحل لفض النزاع، من ذلك البرتغال، اسبانيا، فرنسا، اللوكسمبورغ، هولندا، ألمانيا، قربص، رومانيا المجر صربيا والنمسا. وبالتالي فالمغرب رسخ التَّمَيُّز الدبلوماسي بملف الصحراء ليس فقط على مستوى افريقيا بل امتد إلى دول الاتحاد الأوربي مع ما يترتب على ذلك من مكاسب ساسية و دبلوماسية و اقتصادية و عسكرية.
3- فتح معبر الكركرات كان ضربة معلم : بل كان نهاية المشروع التخريبي الارهابي الذي يحميه أعداء الوطن ، و خصوم وحدتنا الترابية ، فتحرير معبر الكركرات و ضم المنطقة العازلة يعد حدثا تاريخيا بارزا بعد تحرير وفتح جديد لأرض مغربية ، و هو حدث يتساوى و حدث المسيرة الخضراء المظفرة.. ففي 13 نونبر 2020 جرى فتح معبر الكركرات وتطهيره من عصابات ومليشيات البوليساريو، وبالتالي أصبح المعبر تحت السيادة المغربية بنسبة 100% مع ما يترتب عن ذلك من انتصار دبلوماسي للمغرب من جهة، ومن جهة أخرى اعتبار المغرب بوابة تجارية للعمق الإفريقي، و أصبح معبر الكركرات هو قلب الشرايين الذي يربط المغرب بعمقه الافريقي
4- و من الاوراش الملكية الكبرى نجد إعادة تقوية المؤسسة العسكرية جويا وبحريا وقاريا: فنظرا للنجاح المبهر الذي حققته المؤسسة العسكرية في عهد الملك محمد السادس القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية، انخرط المغرب( في إطار تقوية مؤسسته العسكرية) في اتفاقيات تعاون مع دول إفريقية عديدة من أجل مواجهة التحديات الأمنية التي تواجه افريقا، كما انخرط المغرب أيضا على المستوى العسكري في برامج تعاون مع دول الخليج خاصة الامارات وقطر. هذا ويعتبر المغرب نموذج على الصعيد العسكري نظرا للمكاسب التي حققها في هذا المضمار، من ذلك مثلا نجاح الجيش المغربي في مواجهة التحديات الأمنية التي تواجه حدودنا الترابية من طرف عصابة البوليساريو المدعمة من الجزائر. كما أن نجاح المؤسسة العسكرية في مواجهة التحديات الارهابية وإجهاضها لعدة مشاريع متطرفة جعلت المغرب نموذج أمني يحتدى به، زد على ذلك فالمغرب له الفضل في تكون عدة نخب عسكرية إفريقية بالأكاديميات العسكرية المغربية.
5-كما تمكن الأمة المغربية في عهد الملك الهمام محمد السادس نصره الله من امتلاك قدرة وطنية كبيرة في مواجهة الكوارث (كوفيد 19، زلزال الحوز). بعد جائحة كوفيد 19 التي ضربت العالم بأسرة، جاء زلزال الحوز الذي اختص بالمغرب لوحده، هي كوارث طبيعية توالت على المغرب تباعا. أبان المغرب بقيادة ملكنا الهمام على علو كعبه في مواجهة هذه الأزمات العاصفة، إذ تم التعامل مع الوضع بمنتهى الوطنية والجدية، توالت جلسات العمل الملكية، وجاءت البرامج الحكومية، وأحدثت الصناديق المالية، وصرفت مبالغ مالية مهمة لضحايا هذه الكوارث، كلها إجراءات ملكية جعلت المغرب يحافظ على خطه الاقتصادي والاجتماعي بسلام.
6- بفضل نظرة جلالته الثاقبة تمكن المغرب من طي صفحة الماضي والمصالحة وجبر الضرر. و دشن جلالة الملك إثر توليه عرش أسلافه المنعمين مسارا جديدا للحقوق والحريات، حيث تمت مراجعة انتهاكات الماضي وذلك بتأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة في يناير 2004، من أجل رد الاعتبار لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان أواخر القرن الفارط. وهكذا اختصت الهيئة المذكورة بجرد من كانوا ضحايا سنوات الجمر والرصاص وتعويضهم جبرا للضرر، ما أدى في نهاية المطاف إلى المصالحة معهم ومع فكرة حقوق الإنسان بشكل عام.
7- ورش كبير فتحه جلالته في 2002 فجعله ملك الإنصاف و المساواة ، إنه ورش تمكين المرأة من حقوقها الكونية: فمع بزوغ مطلع القرن الواحد والعشرين طفرة نوعية على مستوى حقوق المرأة وحرياتها، حيث تم تمكينها اجتماعيا اقتصاديا وسياسيا بشكل ملحوظ. على المستوى الاجتماعي فمع مدونة الأسرة ودستور 2011 وما واكبهما من اجراءات تم تكريس مبدأ المناصفة بينها وبين الرجل في جميع الحقوق؛ واقتصاديا أصبحت المرأة المغربية لها كامل الحق في ولوج سوق الشغل بل وتقلد مناصب المسؤولية، هذا ناهيك عن إلغاء اذن الزوج لزوجته بممارسة التجارة؛ وسياسيا لا يخفى على الجميع أن المشرع المغربي خص المرأة بتقنية الكوطة في الانتخابات الجماعية والتشريعية، وهي خطوة ملحوظة تدمج المرأة بقوة في العمل السياسي وفي عملية صنع القرار.
8-كما تفضل و سمح جلالته أعز الله أمره بدسترة ملكية برلمانية اجتماعية ، فدستور فاتح يوليوز 2011 أقر بالملكية البرلمانية وكرس للملكية الإجتماعية، و مما لا ريب فيه أن الملكية البرلمانية كنظام سياسي بالمغرب تجعل الأخير أكثر ديمقراطية، وذلك بتعزيزها (أي الملكية البرلمانية) لمبدأ فصل السلط واستقلاليتها، فالبرلمان في هذا السياق له سلطات واسعة ومستقلة، ناهيك عن اختصاصه الحصري ذو الطابع الرقابي.
أما الملكية الإجتماعية كمكتسب حافظ عليه دستور 2011 فهي سر متانة العلاقة بين الشعب والعرش العلوي المجيد، ذلك أن الملك بصفته رئيسا للدولة هو صاحب الولاية العامة في ارساء معالم البرامج الإجتماعية للشعب المغربي(الحماية الإجتماعية أنموذجا).
9- و من الاوراش الكبرى التي سهر جلالته على فتحها وتنزلها على أرض الواقع نجد ورش مأسسة دولة الحق والقانون وتثبيت مفاهيم الحقوق والحريات. دائما في اطار دستور 2011 (والذي يعتبر منعطفا تاريخيا، مؤسساتيا وحقوقيا) أضحى المغرب بلد المؤسسات بامتياز ويتجلى ذلك على سبيل المثال: – استقلال السلطة القضائية عن التنفيذية – تسريع المساطر والإجراءات الادارية وذلك بتبني ورش الرقمنة. – إدماج المرأة في مناصب المسؤولية. – دسترة الحقوق والحريات الأساسية والتنصيص عليها بشكل واضح.
10- طي صفحة المفهوم الكلاسيكية للسلطة من طرف جلالته توج ببزوغ مفهوم جديد للسلطة: فدائما كان مفهوم السلطة يرتبط بالشطط والتجاوز نتيجة لعدم التحديد الدقيق لصلاحيات المسؤول الاداري/الترابي وكذا تعدد الفاعلين وتنوعهم، ومن هذا المنطق وبغية تجويد الفعل الاداري، أحدث جلالة الملك مفهوما جديدا للسلطة قائم على الحكامة الجيدة والتدبير الأجود للمشروعات العامة. المفهوم الجديد للسلطة، قَرَنَ المسؤولية بالمحاسبة، فتولي مهام الأمر بالصرف يترتب عليها مسؤولية إدارية مدنية جنائية، وتتجلى المحاسبة مثلا في اعتماد التصريح بالممتلكات عند بداية المهام وأثناءها وعند نهايتها، الافتحاص والتدقيق المحاسباتي الدوري والمباغث ، إضافة إلى التحديد الدقيق والمفصل للمهام والمسؤوليات، ما يجعل مؤسسات الرقابة تضبط عملية المساءلة .
مقال بقلم: د. عبد النبي عيدودي
عذراً التعليقات مغلقة