إدريس بنيعقوب*
هي محاولة لطرح تساؤلات أو محاولة استقراء لبعض الوقائع الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية، وحول خلفيات الشخصيات/الفاعلين الرسميين الجدد في إدارة الرئيس المنتخب بايدن، التي لا شك سيتأثر العالم بأسره بها.
شخصيتان أمريكيتان اختارهما بايدن لمناصب محورية مؤثرة في إدارته، وواقعة غاية في الأهمية، يمكن أن يكونا مفاتيح لفهم بعض ملامح التوجهات في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة العربية وشمال إفريقيا.
الشخصيتان هما مستشار الأمن القومي المساعد السابق انطوني بلينكن الذي اختاره الرئيس المنتخب الديمقراطي بايدن لإدارة الخارجية الأمريكية في منصب كاتب الدولة، و الثانية هي الديبلوماسي ويليام بورنز في منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية cia، وهي أول مرة في تاريخ الوكالة أن يعين ديبلوماسي يؤمن بالتفاوض والحلول السلمية على رأسها.
وعن الوقائع المعنية فهي تتخلص في رفض الرئيس الجمهوري ترامب الإعتراف بنتائج الانتخابات الرئاسية، واتهامه لخصومه بتزويرها، ثم حشد مناصريه ضد الكونغرس الذين اقتحموه في مشهد هوليودي لايخلو من رسائل وتفاصيل خفية.
بإيجاز ومن خلال مواقف انطوني بلينكن السابقة حول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وحول العلاقة مع تركيا، يمكن تلخيصها في كونها تنطلق بالأساس من قناعاته الحقوقية والديمقراطية، باعتبار أن الحليف الديمقراطي أكثر حماية للمصالح الأمريكية في المنطقة، من حليف غير مستقر في سياق عولمة وانفتاح عالمي.
ورغم أن بايدن لم يخف امتعاضه من الرئيس التركي أردوغان في عدة مناسبات، بل سبق له أن قال أنه يميل إلى مساعدة المعارضة لإسقاطه من الحكم، فإن بلينكن له موقف آخر من تركيا أردوغان.
كاتب الدولة الأمريكي الجديد الذي ينتظر مصادقة مجلس الشيوخ على تعيينه، دافع مرارا على تركيا في علاقاتها مع أوروبا ومع حلف شمال الأطلسي، ويعتبرها حليفا مهما رغم وجود خلافات معها في قضايا متعددة في سوريا وقبرص تحديدا.
كما لم يخف تضامنه مع تركيا بعد الانقلاب الفاشل على أردوغان سنة 2016. وقام بزيارة للبرلمان التركي بعد ذلك، وقال أن خطة قلب النظام كانت محاولة لطعن الديمقراطية التركية. ولعل الأمريكي بلينكن يسير منحا معاكسا للبريطانيين وعلى رأسهم رئيس الوزراء جونسون، الذي يرى أن تركيا ستغزو أوروبا. في مقابل ذلك يرى عضو إدارة بايدن في الشؤون الخارجية أن تركيا حليف مهم ويجب تدعيمه. وقد يكون هذا الموقف ناجم عن قراءة تاريخية لحجم ومصالح تركيا ولذهنية الأتراك وثقافتهم الوسطية، وأنه ربما من المفترض أن تتقوى تركيا الديمقراطية على حساب أطراف أخرى في المنطقة غير مؤمنة بالقناعات الحقوقية مثل إيران وبعض الدول العربية.
وبذلك فإن هناك فرضية تعزيز قدرات تركيا مع الإدارة الجديدة كقطب سني مصدر توتر في بلاد إسلامية وعربية أخرى، مع تحجيم تدخلاتها في المنطقة واحتوائها في أجندة جيوسياسية معينة، من أهم عناصرها احتواء روسيا والصين في المنطقة، وإعطاء نموذج الدولة الإسلامية المعلمنة غير المعادية للقيم والمصالح الغربية.
وفيما يتعلق برؤيته للمنطقة العربية خصوصا خلال فترة اشتغاله في إدارة الرئيس أوباما، فقد كان بلينكن من راود التغيير الديمقراطي في المنطقة ومن مساندي انتفاضات الربيع العربي، بتبني فكرة إحداث التغيير المناسب والملاءم لكل دولة ولو اقتضى الأمر حث الجيش الوطني لكل دولة على ذلك، والاستجابة لمطالب الشارع الحقوقية. كما أنه يميل إلى التهدئة مع إيران على غرار عدد كبير من المسؤولين الذين اختارهم بايدن في إدارته.
ولاشك أن كاتب الدولة في الشؤون الخارجية الجديد سيحيي آلية التقارير الدولية لحقوق الإنسان في وزارته، التي تعثرت في زمن ترامب بعدما خفض من ميزانيتها بشكل كبير جدا منذ وصوله إلى الرئاسة. وهي آلية من آليات الضغط والتنبيه والتقريع أيضا.
ومن الواضح أن بلينكن وبايدن يتفقان حول مسألة حماية مصالح حلفاء أمريكا التاريخيين في الغرب وتحديدا في أوروبا، مما يفترض أن يكون هناك توازن فيما يخص تدبير وتوازن أمريكي للمصالح بين المغرب وافريقيا مثلا ودول الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها بريطانيا بعد البريكسيت وفرنسا وإسبانيا وألمانيا.
وعلى ما يبدو أن قناعات بلينكن الإصلاحية الديمقراطية والحقوقية، يسندها اختيار بايدن لشخصية دبلوماسية، وليام بورنز على رأس وكالة الاستخبارات المركزية، بل ويكملها ويتقاطع معها في نفس التوجهات.
ومن خلال قراءة في بعض الأفكار التي كتبها ويليام بورنز خصوصا في مقال نشره في دجنبر 2019 في موقع مركز كارنيجي للسلام العالمي، تحت عنوان an end to magical thinking in the middle east، ( نهاية التفكير السحري في الشرق الأوسط)، فإنه يبدي رؤية أكثر نضجا وفهما للتاريخ وللذهنيات والتناقضات، ويقترح إدارتها بشكل ديبلوماسي وواقعي بإسناد عسكري ثانوي محتمل، عكس ما قامت به إدارة ترامب في التضخم العسكري في المنطقة وإضعاف للآلة الديبلوماسية.
كما يرى بورنز انه ينبغي إدارة الاختلالات والصراعات والمنافسات السياسية الداخلية في دول الخليج، مطالبا هذه الدول بأن تتوقف عن التصرف وكأن الولايات المتحدة الأمريكية أعطتهم شيكا على بياض، وأن يفتحوا حوارا حقيقيا مع إيران وأن يلتزموا بعدم التدخل العسكري والسياسي في اليمن وليبيا والسودان. ويتصور بورنز أنه يجب إدخال جرعات من الديمقراطية و احترام حقوق الإنسان لهذه الدول الخليجية، من دون الإضرار بالمصالح الأمريكية أو بأمن هذه البلدان.
ولعل هذه التوجهات الجديدة في ذهنيات مسؤولي الإدارة الأمريكية الجديدة، هي من عجلت بعقد مصالحة خليجية شاملة ومفاجئة بين جميع المتخاصمين مع قطر الذي بدا وكأنه نصر بدون شروط لهذه الإمارة الخليجية الصغيرة، و التي لا طالما اعتبرت سندا للإدارات الديمقراطية، ومبشرة بقيمها في المنطقة العربية، على الأقل من خلال ما شاهدناه في تموقعها الجيد في مساندة بايدن إعلاميا، وربما حتى سياسيا باستعمال لوبيات ضغط لفائدته، عكس إعلام الدول الخليجية الأخرى التي أبانت عن دعم منقطع النظير لترامب، مما يؤشر ويعكس رؤيا القادة السياسيين في هذه البلدان.
بالنسبة للمغرب لايجب التعويل كثيرا على بعض الصداقات في الحزب الديمقراطي الأمريكي، فالولايات المتحدة ستخرج من هذه الفورة السياسية التاريخية الداخلية و من تبعات كورونا ومخلفات ترامب كالثور الهائج، لاينظر إلا لقرنيه من أجل تأمين نفسه ومحيطه القريب والبعيد ومن أجل تفادي أزمات مماثلة مستقبلا.
ومن جهة أخرى، ولتحليل بعض عناصر ورسائل اقتحام وآثار اقتحام الكونغريس الأمريكي من قبل مناصرين لترامب، فإنه يمكن إجمالها في ثلاث خلاصات رئيسية.
الخلاصة الأولى وهي أن النظام الأمريكي هو نظام مؤسسات وليس نظام أشخاص. نظام له من الآليات الذاتية الدفاعية التلقائية والقيم التي تشتغل في فترة الأزمات الكبرى لإعادة ضبط دورة حياته، ولو في غياب رئيس أو تعطل بعض المؤسسات ووجود انقسامات، عكس الأنظمة غير الديمقراطية التي قد تنهار بمجرد ارتفاع احتاجاجات في الشارع العام، وبالتالي فإن مناعة أي نظام تقوم على المناعة التي اكتسبها شعبه المؤمن بالديمقراطية وليس على ممارسة السلطة والقوة.
الخلاصة الثانية وهي أن الإدارة الجديدة من خلال بداية محاكمة ترامب في الكونغريس، وهي تخلق سابقة محاكمة رئيس أقوى دولة في العالم، تؤكد أنها لن تسمح لأي كان بأن يعبث بالقيم وبالديمقراطية الأمريكية وهي رسالة موجهة للعالم بشكل عام، وموجهة بشكل خاص لأولئك الهواة الذين لا يفهمون قواعد التاريخ جيدا، الذين دعموا ترامب للانقلاب على الديمقراطية، بالمال والصفقات وغيرها خصوصا من المنطقة العربية.
وبالتالي هي فرصة لتجديد مشروعية قيم الغرب الديمقراطي، وفرصة لاجتثات كل العناصر الخارحية التي من شأنها أن تدعم أي عنصر داخلي مشوش وانقلابي على الدستور الأمريكي. لذلك قد نتوقع ردة فعل أمريكية قريبة في عدد من الدول العربية التي لعبت لعبة مصالح مع ترامب للسكوت عن حجم خروقاتها لقواعد التنظيم الإقليمي والدولي، ولبسط نفوذها بشكل لا يتناسب مع القيم الديمقراطية الغربية.
الخلاصة الثالثة وهي أن إدارة بايدن تستجمع مكتسبات “الثورة الأمريكية الجديدة”، وترصد الأرباح الرمزية والسياسية لتستغلها بشكل ملموس في التواصل مع العالم ومع أشباه ترامب في الذهنية والمسعى، لتؤسس وتشرعن من جديد لتدخلاتها العالمية المقبلة.
ستستعمل الولايات المتحدة الأمريكية نصرها الداخلي على التمرد على الحق والقانون كقوة ناعمة لنشر قيمها في العالم ولتصحيح أخطاء إدارة ترامب. لأنه في آخر المطاف هذا ليس مشهدا عاديا في دورة الاشتباكات السياسية الداخلية يسجل ثم يصنف في الأرشيف التاريخي، وإنما هو محطة ترفع الستار عن عالم جديد بقواعد جديدة وقوة أمريكية أكبر بهرت وشدت العالم كله إليها، من خلال عبرقية إيجاد الحلول وبإيمانها الراسخ في القيم الديمقراطية.
لذلك فإن المنطقة العربية وإن كانت أنظمتها قد اكتسبت “مناعة قطيع” أمنية بعد تجربة الربيع العربي، فإنها لم تكتسب مناعة ديمقراطية أو سياسية أو اجتماعية، بل فقدت بعضها بشكل واضح وعليها إعادة ترتيب أوراقها مع الزمن الأمريكي الجديد، حتى لا تجد نفسها على المدى القصير والمتوسط ابتداء من الربيع المقبل من هذه السنة في مواجهة رجات جديدة أكثر شدة ونضجا من السابقة.
بالنسبة للمغرب الجواب على التحولات الجديدة، ينبغي ألا يكون التفكير والاستعداد للمرحلة من خلال الاحتياطات الأمنية، بالمعنى الضيق للأمن، لإزالة استباقية لعناصر التوتر والتشويش والتهييج، وإنما يفترض البحث عن مكمن الخلل الحقيقي في عمليات الإصلاح الحقيقية هل نتج عن الإدارة أم عن السياسية لإيجاد صيغة أمنية متنوعة المجالات من الأمن العمومي إلى الأمن الاقتصادي والاجتماعي والحقوقي والسياسي والثقافي أيضا.
المرحلة الجديدة قد تفترض إعادة تجديد لأركان الدولة بأجندة اجتماعية وحقوقية ملموسة. وأهم هذه الأركان هي الأمن المجالي المعهود في جزئه الأكبر إلى الإدارة الترابية.
الإدارة الترابية باعتبارها وسيط مفروض فيه نقل قواعد وقيم التدبير المركزية الجديدة إلى الفضاء المحلي، وفي مقدمتها قيمة التدبير الجديد لممارسة السلطة، فهل توفقنا فعلا في تطبيق المفهوم الجديد للسلطة منذ عشرين سنة، أم لم نزل مطوقين بتقاليد ممارسة السلطة الترابية من منظور تسلطي وليس من منظور حقوقي منفتح في تغييب غير مستساغ لآيات الرقابة والضبط القضائي؟
الإدارة الترابية أيضا موكول إليها إدارة الأزمات المحلية والوساطة، التي يبدو أنها لم تعد موفقة بشأنها، بل وظهرت محدودية الإبداع فيها منذ احتجاجات الريف. أيضا من مهامها التي ارتضتها الدولة لها من خلال ظهير 1977 لاختصاصات العامل ونصوص كثيرة أخرى بما في ذلك قانون مراكز الإستثمار الجهوي، هي تحويل مطالب وانتظارات المحلي إلى المركزي بشكل أمين وصحيح، ويفترض فيها أيضا أن تدير التناقضات والمصالح والرغبات الجديدة، خصوصا لدى فئات الشباب بمنطق حديث يتوخى استيعاب وحماية الحركات الاجتماعية الجديدة.
هذه المؤسسة أصبح من الضروري فتح ورش إصلاحها بشكل جدي وصادق، بالحفاظ على بعض تقاليدها وأعرافها التمثيلية الرمزية، وبجعلها واضحة السلطات والاختصاصات والمنظومة المعيارية لمحاسبتها عند وجود اختلالات ترابية، غالبا ما يتم التهرب منها وإلقاءها على سياسي لا يتمتع بالقدرة المستقلة على إنتاج ذاته وسلوكه أو مشاريعه..
يفترض أن نستبق وأن ندخل زمنا إصلاحيا جديدا، من خلال إصلاح هذه المؤسسة التقليدية التاريخية وملاءمتها مع العصر. إصلاح عميق لإعادة تنظيمها وهيكلتها، يمكنها من استعادة دور الوساطة الاجتماعي في إدماج المهمشين على المستوى الترابي، وفك الضغط عن المركز، وترقية السياسي المحلي، وعدم الاكتفاء بسياسة الاعتناء بالأعيان أو بعض الفئات دون غيرها، أو “بالمتسلقين الاجتماعيين الجدد” أو بخلق مجتمع مدني غوغائي مسترزق لابوصلة له وغير مقنع حتى لمن صنعوه، بمعنى يتعين إنشاء جسور جديدة مع الكفاءات المحلية ومثقفي الهوامش المحلية، ومستثمري الهامش المتوسطين باعتبارها فئات تشكل وقودا بشريا للقرب يبني ويحافظ على الثوابت، مع ضرورة فتح زمن الحرص الحقيقي على سيادة القانون بمنطق العدالة حينا والإنصاف حينا آخر.
وأمام زخم الأحداث وتسارع الزمن، وفي أفق استرجاع دور السياسة المفقود، أمام استفحال الزبونية الإدارية والحزبية، و أمام العقلية الراسخة في رفض المحاسبة، وأمام توسع قاعدة كبار موظفي وبيروقراطيي الدولة الذين لا يمتلكون نظرا سياسيا عميقا للمستقبل، فإن ورش الأحزاب السياسة ينبغي أن يفتح من جديد، بخلفية ترابية جهوية والسماح بمرور الكفاءات والنخب المحلية والوطنية الحقيقية إلى مراكز القرار خارج حسابات الولاء والريع.
إلى جانب ذلك يتعين الاعتراف الحقيقي بالرصيد الثقافي الأمازيغي، وإقراره في الحياة العمومية والإدارية والإعلامية، تخفيفا للضغوط المستقبلية من منطق حماية الأقليات أو الأغلبيات المهضومة الحقوق الثقافية.
ورش آخر له مكان على خريطة المخاطر، وهو سؤال التعامل وكيفية تطوير الإعلام والتواصل الشبكي، وضبطه وتأهيله لاستغلاله بالشكل المناسب كساحة تنافس أفكار ومقترحات وأداة تأطير، بدل اختيار الطرق الكسولة في ضبطه من خلال ملاحقته وشيطنته أو تمييعه.
الإعلام هو أحد أهم وسائل تدعيم التعددية السياسية والفكرية والثقافية، في بعدها الهوياتي الوطني والفرعي الجهوي، وينبغي تحديد معايير واضحة للتعامل مع اختلالاته ومجازاتها انطلاقا من القانون وليس انطلاقا من قواعد الولاء الذي أفسد الجزء الأكبر من التواصل الإعلامي بالمغرب.
وعلينا أن نستحضر خطورة هذه المؤسسة الاجتماعية، باعتبارها كانت أحد أدوات صناعة وإدارة الحرب الداخلية في أكبر الديمقراطيات في العالم، وظهرت خطورتها أيضا في التأطير والاحتجاج بشكل فعال وكبير خلال فترات الحجر الصحي بسبب كورونا وحالات الطوارئ عبر العالم، وبإمكانها إما أن تصنع رأي الثقة لدى المواطن أو تصبح مصدر توتر داخلي وخارجي وتخلق حالة من الشرود والنقمة والاستهتار بمؤسسات البلاد.
* باحث في العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط.
عذراً التعليقات مغلقة