المعركة
الحاجة إلى بديل ديمقراطي
بقلم: أناس الدكالي*
يعيش العالم على وقع أزمة صحية متمثلة في جائحة كوفيد-19، لم يسبق لها مثيل في زمننا المعاصر، وضعت على المحك كل الدول والحكومات والهيئات و المؤسسات الجهوية و الدولية، وأرهقت الأنظمة الصحية عبرالعالم، ونتجت عنها تداعيات اقتصادية واجتماعية وخيمة، انعكست على تراجع نسبة النمو عالميا وتفشي البطالة و عجز الميزانية وارتفاع غير مسبوق للمديونية.
لقد أبانت هذه الأزمة عن قصور للأنظمة الليبرالية في التجاوب مع حاجيات المواطنين من الخدمات الأساسية الشاملة و تحقيق الحرية و المساواة و الثقة في المستقبل. و لعل بروز اقتصاد مرتبط بالأزمة هيمنت فيه بالخصوص شركات عالمية عملاقة لصنع الأدوية و المواد الصحية و اللقاحات وكذا في مجال الخدمات الرقمية و التجارة الإلكترونية في إطار سوق حرة جشعة وأحيانا في تغييب للقيم الإنسانية، لدليل على إخفاق المقاربة الليبرالية المحضة، التي قلصت من قدرة التدخل لدى الفاعلين السياسيين على المستويين الوطني والدولي، وأحاطت بالضبابية النظام العالمي الحالي الذي أصبح ينذر في الأفق القريب بوضع جديد أكثًر تفككًا.
في المقابل كشفت هذه الأزمة عن طبيعة الأنظمة التي استطاعت التفاعل بشكل سريع و قوي مع هذا الوباء و مع انعكاساته الاقتصادية و الاجتماعية، و هي دول اجتماعية، نموذجها الاقتصادي أقرب إلى نظام اجتماعي للسوق منه إلى نظام حر. دول احتفظت لنفسها بآليات التدخل في تنظيم الاقتصاد و تقديم الخدمات العمومية الأساسية للمواطنين، من خدمات صحية و تعليم وحماية اجتماعية.
اليوم و العالم يواجه أزمة صحية و اقتصادية قد تقوده إلى أزمات اجتماعية و سياسية خطيرة، فإننا سنجد في قلب هذه الأزمات المتقاطعة أزمة ثقافية تتشكل من خلالها أزمة حضارية، حيث يطفو وهم الفردانية و الرؤية القصيرة المدى على القيم و الأفق الجماعي المشترك. غير أن الفكر النيوليبرالي الذي انتشر في كل أنحاء العالم مند بداية الثمانينات، غير قادر اليوم على الإجابة على هذه الأزمة الحضارية لأنه بكل بساطة جزء لا يتجزأ من أسبابها.
ولعل التصدعات الاجتماعية و السياسية و القيمية و البيئية التي تولدت بفعل نظام عالمي مفرط للسوق يعتمد علی المنافسة الشرسة و الغير العادلة بتشجيع الإغراق dumping الجبائي و الاجتماعي، ليستدعي تصور و تحقيق نموذج جديد لإنتاج الثروات و توزيعها العادل و المثمر. فالأزمة تؤكد كذلك الحاجة الى خدمات عمومية ذات جودة و في خدمة النمو المستدام مما يقتضي نهج نظام جبائي عادل، ذو جودة و مستدام أيضا لتمويل تلك الخدمات.
الحاجة إلى مشروع ديمقراطي بديل
و لذلك فالعالم يحتاج اليوم إلى مشروع ديمقراطي بديل قد يشكل اليسار الديمقراطي أحد دعائمه الأساسية. يسار ديمقراطي قادر على أن يقود مشروعا حضاريا جديدا، يعيد المعنى للتقدم و يجسد القيم و يعيد الأمل في بناء مشروع التغيير الديمقراطي في مستوى تطلعات و تحديات هذا العصر.
فأمام مجتمع اليوم الذي يذكي جنون الاستهلاك، و يؤدي إلى إفقار الأغلبية و إثراء الأقلية، و يزيد من تفاقم الأزمة البيئية و يمدد بلاحدود مجال التسليع، حيث يصبح كل شيء عبارة عن علامة تجارية، يتحمل اليسار الديمقراطي مسؤولية الانتقال المؤدي إلى مجتمع أفضل يلج فيه الجميع إلى السلع الحيوية و الخدمات الأساسية التي يحتاجها. مجتمع موحد يكون فيه الاهتمام بالجميع و بالمستقبل و بالعالم في صميم الأولويات الجماعية المشتركة.
من أجل ذلك وجب بناء ديمقراطية تحسن بناء المستقبل، من خلال مؤسسات ديمقراطية تحدد الخيارات الكبرى التي ستفرضها التغيرات العالمية، كما وجب ترجيح كفة المدى الطويل مقابل استبداد المدى القصير و إعطاء النمو مضمونا مغايرا و جعل المالية في خدمة الاقتصاد و ليس العكس و تعلم كيفية الإنتاج بشكل مستدام و ابتكار أدوات جديدة لتدبير الاقتصاد.
غير أنه لا يمكننا الوصول الى نظام ديمقراطي في غياب امتداد الإحساس الديمقراطي و العقلية الديموقراطية داخل المجتمع. فإذا كان مشروع اليسار الديمقراطي يهدف إلى أن لا يقع أي إنسان تحت مستوى معين من الموارد الحيوية لتحقيق الكرامة فإنه في المقابل اليوم عليه أن لا يسمح بالميول للسلطة المطلقة و الثروة اللانهائية على حساب المثل الديموقراطية و التوازن الإيكولوجي. و إذا كان المسعى التقدمي الثابت لهذا ليسار هو تغيير العالم، فاليوم يشترط إخضاع هذا المسعى لضرورة الحفاظ على هذا العالم بأبعاده البشرية و التاريخية و الثقافية و الطبيعية.
المغرب في مواجهة الأزمة
في المغرب، أبانت الدولة من خلال مؤسساتها الاستراتيجية و الأمنية و الصحية عن قدرات مميزة في مواجهة وتدبير الأزمة، تجسدت في المقاربة الوقائية و الرد السريع و بوجه إنساني على الوباء و مخلفاته الاجتماعية والاقتصادية، مما خلف شعورا نوعيا بالأمن والطمأنينة لدى المواطنين. حيث قامت الدولة بخلق زخم من التضامن كان حاسمًا في تعبئة الموارد و الحفاظ على الكرامة، ولا سيما بالنسبة للفئات الهشة و المتضررة. كما حددت المبادئ التوجيهية ، سواء من حيث الحماية الاجتماعية ، ولا سيما التعجيل بتعميم التغطية الصحية الشاملة ، أو من حيث الانتعاش الاقتصادي ، من خلال تعبئة صندوق استثماري مهم، كأجوبة مناسبة للتخلص من وقع الأزمة.
في المقابل، ظل تأثير الحكومة، على مستوى جزء كبير من مكوناتها، وكذا الجماعات الترابية في علاجها للوباء والاستجابة لمخلفاته محدودًا للغاية. حيث ظهر الارتباك و سوء التقدير و ضعف في التنسيق وعجز في التدخل. كما غاب النقاش الديمقراطي بين هاته النخب المنتخبة والمواطن، الذي لم يجد كما في السنوات الأخيرة سوى المنصات الاجتماعية للتعبير تارة عن سخطه و غضبه و تارة عن استخفافه و استهزاءه اتجاه النخب السياسية دون استثناء. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل عن المشوار الذي لا زال يفصلنا عن الديمقراطية الحقيقية و عن مرتكزيها الأساسيين المتمثلين في اللامركزية و اللاتمركز، من أجل تعزيز بناء الدولة الوطنية الديموقراطية.
لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين
بيد أن بناء الدولة الوطنية الديموقراطية، التي تجعل من الانسان محور مشروعها التنموي بأبعاده السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و البيئية، و تضمن سيادة القانون و حماية الحقوق و الحريات، يقتضي وجود قوى ديمقراطية حية داخل المجتمع تدافع عن هذا المشروع من خلال النضال الديمقراطي و من داخل المؤسسات وتساهم في تقوية الرأسمال الاجتماعي بتعزيز الوعي و الثقة الاجتماعيين، و تحفيز المواطنين و بخاصة الفئات الشابة، على الاهتمام بالشأن العام.
قوى ديمقراطية، يشكل فيها اليسار الديمقراطي جزءا مهما، عليها أن تسترجع المبادرة للمطالبة و الدفع بالإصلاحات المؤسساتية و الاقتصادية و الاجتماعية في إطار دستور 2011 المتقدم و كذا من خلال التعاقد الذي يجمعها بفئات واسعة من المجتمع خاصة الطبقة العاملة و المنتجة وكذا الفئات الهشة و الفقيرة، مع الابتعاد عن المقاربات الانتهازية و التبريرية للسياسات اللاديمقراطية القائمة.
هي قوى كانت موجودة و مؤثرة في مسار مغربنا الحديث، إلا أنها فقدت مع مرور الوقت الكثير من بريقها، و عليها اليوم أن تثبت أنها قادرة على رفع تحديات المرحلة التاريخية التي نعيشها. قادرة على مواجهة ثقافة التطرف و الرجعية و التضليل و التبخيس و العدمية من جهة، و من جهة أخرى على مناهضة كل الأفكار و الممارسات و السياسات الليبرالية التي تدفع نحو التقليص المستمر من تدخل الدولة في تنظيم الحياة العامة، والتي تتجسد في قوى لا تتردد في استعمال الدين و المال و الأعمال في مشروعها السياسي.
و لعل المحطة الانتخابية المقبلة لمناسبة لإفراز الملامح الأساسية لهذه القوى الديمقراطية في حلتها الجديدة، كبديل مستقبلي للفكر الوحيد و الحل الوحيد المتمثل في المشروع الليبرالي بمختلف مكوناتها و تعابيره، و فرصة للتغيير الديموقراطي نحو المشروع الديموقراطي الحداثي. و هذا يقتضي من الأحزاب الوطنية الديموقراطية أن تقدم مشروعا جديدا من منطلق نقدها لتجاربها السابقة و القبول بتجاوز الأخطاء المرتكبة إبانها، و إبداء صورة جديدة مبنية على المثالية، تتجسد في تقديمها لنخب جديدة و شابة من داخل تنظيماتها و من خارجها، على مستوى الفعاليات المدنية البارزة و المؤثرة اجتماعيا، و إبعاد كل من أثيرت حولهم شبهات الفساد، مما من شأنه إعادة الثقة للعملية الانتخابية و كسب اهتمام الرأي العام و الكتلة الناخبة.
*أستاذ جامعي و وزير سابق
عذراً التعليقات مغلقة