المعركة
التعليق على أحكام القضاة من حقوق الانسان في الرأي والتعبير، و لا يقع تحت طائل اي عقاب…
بقلم: صبري الحو*
إن التعليق على الأوامر والأحكام والقرارات القضائية مستمد من أصل حرية التعبير كمبدأ أصيل في الشرعة الدولية، وفرع من قاعدة يؤطره من الناحية القانونية تعدد درجات التقاضي، ونظام القضاء من الفردي إلى الجماعي، بزيادة في عدد القضاة المكونين لتركيبة هيئات الحكم مع توالي الدرجات من الأصغر الى الأكبر . فالمشرع وضع فرضية و قرينة قانونية مفادها احتمال شبه قاعدة وقوع القاضي في الخطأ، أو حتى حاجة حكمه لتأكيد من طرف جهة قضائية أخرى . بمعنى أن الشك مثار وقائم حول صواب حكم القاضي وحول مدى مطابقته للقانون .
و إن تجويد الأحكام مهنة مرتبطة بحق التعليق الذي يتخذ مصادر مختلفة واشكال متعددة، والمعتاد منها هو حق الطعون المحددة في نوعها وزمنها وشكلها وأطرافها وفضاؤها بمقتضى القوانين الاجرائية( استئناف، نقض، تعرض، تعرض الغير الخارج عن الخصومة، إعادة النظر، المراجعة، الإحالة). إذ يعتبر الطعن القضائي في حد ذاته تعليقا على الحكم، لأنه يعيد نشر القضية و يناقش الحكم المتخذ فيها حول مدى صوابه من عدمه، والتدخل للتأييد أو الالغاء او التعديل.
ولأن التعليق حر فان المشرع اكتفى بتحديد اجراءاته الشكلية فقط دون أن يضع مدى ولا حدود لجوهر وموضوع الطعن والتعليق، لأن الأطراف بعد الحكم يسترجعون حق مناقشته والتعليق عليه بالوسائل والموجيبات التي يقدرونها صالحة ومفيدة لهم، فهو حق تكفله قواعد قانونية سواء في المسطرة المدنية او المسطرة الجنائية او قانون المحاماة.
غير أن التعليقات التي يرفضها القضاة وينفرون منها هو تلك التي تثار خارج فضاءات المحاكم وخارج محارب العدالة و التي يدلي بها بغض النظر عن مصدريها رجال القانون او غيرهم ، وخاصة تلك المناقشات التي يكون مصدرها وسائل الاعلام ورجال السياسة، وذلك نابع من صراع سيبقى أبدي، فالاعلام والقضاء سلطتان يتنافسان حول من تكون له سلطة الرقابة الأعلى، وفوق السلط، بينما الساسة جزء منهم من السلطة التي تصنع عمل أوتنتج أدوات عمل القاضي أو جزء من تلك التي تعينه.
ومهما يكن من أمر فان مبدأ خضوع الجميع أفرادا وجماعات ومؤسسات للقانون في مبدأ الشرعية لا ينفي حق الجميع بما فيه سلطة الاعلام والساسة والعامة في التعليق على الأحكام القضائية، فهؤلاء لا يختلفون في شيء عن حق ذوي الصفة في الغاية والفلسفة من اقرار الحق في التعليق مادامت نتيجة الحكم نسبية وليست مطلقة، والحقيقة قضائية فقط مرتبطة بوسائل الاثبات ومستوى فهم وادراك وكفاءة القضاة وضميرهم المهني وأخلاقهم. واحكام القضاة ليست منزهة من الخطأ.
و الحقيقة القضائية التي تعتبر خلاصة عمل القاضي، والتي يمكن وصفها بالتعبير القضائي “بالاجتهاد” ليست مستقرة، بل متدبدبة فمحكة النقض حاليا والمجلس الأعلى سابقا لم يستطيعوا توحيد الاجتهاد القضائي، بل ساهموا في عكس ذلك وتشتيته وتنوعه وتعدده واختلافه، فكم من قضية واحدة عرفت اجتهادات متباينة ومتناقضة، بشكل تجعل القاضي والمحامي والمتقاضي في حيرة من أمرهم.
وإذا كان حق التعليق يستند الى القانون، ومرتبط بالحق في التعبير، كحق من حقوق الانسان، ومحمي دستوريا، بل إنه ضروري لتجويد عمل القاضي و لممارسة نوع من الرقابة الشعبية عليه لتحفيز القضاة الحرص لمناعة وحصانة أحكامهم وقراراتهم بقياس واحد هو جعلها مطابقة للقانون .
وقد ميز المشرع بين التزام القاضي لمطابقة حكمه مع القانون في المسؤولية ؛ بين احتمال وقوعه في الخطأ في القانون العضوي الذي لا يسأل عنه، وبين الخطأ في القانون الاجرائي الذي يلزمه باصدار الحكم بعد اتباع واحترام كل الاجراءات الشكلية والمسطرية . بحيث جعل الخرق المسطري أعوص وأخطر من الخطأ في القانون، من جهة لأنه يعرض القاضي للتأديب في نفس الوقت الذي يعرض الحكم او القرار للنقض والبطلان في اطار موجب خرق قاعدة مسطرية أضرت بأحد الأطراف.
لذا فإن أي محاولة من طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية للجم أو تحجيم الحق الأصيل في التعليق على القرارات القضائية عن طريق التهديد باستعمال وتفعيل القانون ، والقصد منه القانون الجنائي في المواد المرتبطة بالمس بهيئة قضائية او التأثير عليها او بتحقير القرارات القضائية الواردة في القانون الجنائي.
فهو من جهة تدخل مشوب بعدم الاختصاص من جهة، واختصاصات المجلس وولايته حصرية، لا تقبل التفسير والتأويل زيادة من جهة، وهو استعمال للنصوص في غير موضعها لأن التعليق ينصب على عمل القاضي وليس على شخصه من جهة أخرى، بل وان البلاغ يحمل تأثيرا مباشرا على عمل القضاة أنفسهم من جهة ثالثة.
و قد يفهم بلاغ المجلس الأعلى للسلطة القضائية في تسرعه باصدار البلاغ في سياق، و في اطار تنافسه الخفي والمستتر مع وزارة العدل ورئاسة النيابة العامة على تثبيت ولاية الاشراف العام على كل ماهو قضائي. وهو أمر فيه نقاش كبير، لا يمكن حسمه بالسوابق والتسابق.
فالأمر ليس منافسة رياضية الحسم فيها للأسبق، بل الأمر مرتبط بسلطة القضاء النبيلة، نعم لاستقلاليته لكن في اطار المبادئ الأممية والقانون الدولي والدستور والقانون الوطني. وهي مبادئ مبدأ مقابلة تحمي الدولة والمجتمع من أي شطط قضائي يمكن أن يقع في اطار سوء تفسير الاستقلالية.
فالمواد القانونية المتجه استعمالها من طرف المجلس توفر الحماية لشخص ورجال القضاء في شرفهم وشعورهم والاحترام الواحب لسلطتهم فقط، و لا تمتد هذه الحماية الى اعمالهم، فالمشرع لم ينزه عمل القضاء من الأصل ومنذ البداية. ولا اطار قانوني يسمح بتوفير حصانة هذه الأعمال بمادة قانونية جنائية، كما أن القانون جعل الأحكام والقرارات والأوامر القضائية عرضة للإلغاء والبطلان والتصحيح.
وفي مقابل عدم توفير المشرع الحماية والحصانة لقرارات القضاء، وزاعمال القضاة ، فان نفس المشرع وضع حماية دستورية للحق ابداء الرأي و في التعبير عنه ، وهو حق من حقوق الانسان.
محامي بمكناس
خبير في القانون الدولي، الهجرة ونزاع الصحراء.
عذراً التعليقات مغلقة