نساء يتبرك بهن: الولاية النسائية في سوس، لالة تعلات نموذجا

27 سبتمبر 2024
نساء يتبرك بهن: الولاية النسائية في سوس، لالة تعلات نموذجا

المعركة

مساهمة في النقاش الدائر حول قضايا النساء في المغرب، نود المساهمة فيه بما يلي:

نساء يتبرك بهن: الولاية النسائية في سوس، لالة تعلات نموذجا (الجزء الثاني)

يتميز الفضاء الثقافي لسوس بحضور العديد من الصالحات اللواتي كانت تُعتبر كرامتهن مصدر بركة للناس وفي جميع الأوساط العامة والخاصة. ويشير محمد المختار السوسي إلى أن أهل سوس كانوا من “عشاق البركات”، وهذا الامر مما يعكس مدى انتشار ثقافة الصلاح والاعتقاد بكرامات الأولياء في المنطقة.

من بين النساء، اللواتي كان لهن حض عظيم في الولاية والبركة والصلاح نجد لالة تعالات الشتوكية التي سنذكر مناقبها فيما يلي من هدا المقال، كما تقف لالة تعزى تسملالت، وتبرز الى الحد الذي وُصفت فيه من قبل محمد المختار السوسي بأنها ذات مقام سامٍ. حين ورثت جزءًا من صلاح والدها، محمد بن علي السملالي، الذي ذُكر في مؤلفات تراجم العلماء والأولياء بسوس، واعتُبر رجلًا صالحًا وفاضلًا.

تعتبر هذه الشخصيات تجسيدًا لوراثة القيم الرمزية ومنها الصلاح والولاية، حيث لا تقتصر البركة على الأسماء والنسب فقط، بل تتجاوز ذلك لتشمل الخصال الطيبة والخصال الروحية كذلك. وتعكس قصص هؤلاء الصالحات عمق تأثيرهن في المجتمع، وتستمر كراماتهن في إلهام الأجيال تلو الاخرى.

تعتبر وراثة الصلاح ظاهرة شائعة في سوس، حيث يتم توارث القيم الروحية والدينية عبر الأجيال. من بين الأمثلة البارزة في هذا المجال نجد، لالة الرقية الصوابي، ابنة سيدي أحمد الصوابي، ولالة رحمة دفينة قرية أغبالو بماست، التي تنتمي إلى نسل الأشياخ السكَّراتين ناحية أزغار ن تاسرا.

وفي الفضاء الثقافي الديني السوسي كما أشرنا ابلى ذلك، لا يقتصر الإرث على الأسماء والنسب والموروثات المادية فقط، بل يشمل أيضًا القيم والمناصب الدينية، وهو ما أشار إليه السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو عندما تحدث عن نمط “إعادة الإنتاج الاجتماعي”. نمط يشمل جميع الوظائف الاجتماعية، وفي هذا السياق تدخل اراثة الإمامة والقضاء والافتاء، في مثل هذه الفضاءات مما يعكس استمرارية تأثير الشخصيات الصالحة في المجتمع عبر الزمن.

لم تكتفِ لالة تعزى تسملالت بميراث أبيها في الصلاح، بل سعت أيضًا لإبراز فرادة شخصيتها وصقلها، كما عززت من كرامتها ومن رصيد ورعها، مما مكّنها من الوصول إلى مراتب عليا في مجال الولاية النسائية في مجال ديني يتميز بسيطرة الولاية الذكورية ومحاصرة الولاية النسائية. ووفقًا لما ذكره محمد المختار السوسي، كانت تعزى تاسملالت عابدة ناسكة، ولها العديد من الأخبار والكرامات الروحية القوية التي تواترت عنها.

اعتقد الناس في زمنها اعتقادًا عميقًا بقدراتها الروحية، ولا تزال تُنسب إليها حوادث غيبية حتى اليوم. ومشهدها أصبح مشهدا مشهورا ومما زاد من شهرته، بناء مدرسة علمية عليه، مدرسة مقصودة وعامرة ويستقطب إليه الطلبة والباحثون. توفيت عام 1059 هـ، ويمتاز قبرها حسب السوسي بجوٍ من الروعة والسكينة، مما يعكس تأثيرها الدائم في ذاكرة المجتمع.

لقد كانت تعزى تاسملالت شخصية روحانية معروفة في حياتها، حيث كان الناس يعتقدون ببركتها ويطلبون دعواتها، ويبحثون عن الشفاء على يديها لإيمانهم بولايتها. كانت تُنسب إليها القدرة على الكشف عن الغيب والتنبؤ بالأحداث المستقبلية. وقد نُقل عنها أنها تحدثت عن مقام رفيع للشيخ ابن يعقوب السملالي، العالم المشهور، وذلك بعد وفاته. في رؤية روحية في منامها، وحسب السوسي فقد أخبرها ابن يعقوب أن الله غفر له ولجميع من لجأوا إليه في القضاء. كما أوصى بالصلاة، لكنه لم يتمكن من أدائها في وقتها، وذكر أن الله غفر أيضًا لمن ساعده وساعد طلبته. كرامات لالة تعزى تاسملالت انتشرت بشكل واسع في منطقة سوس، ووصلت شهرتها إلى أماكن بعيدة، مما جعلها رمزًا روحانيًا مؤثرًا في تلك الفترة.

يبين لنا هذا النموذج أن النساء الصالحات في سوس كن يتمتعن بمكانة رفيعة في مجال القداسة، تمامًا مثل الرجال. فقد اشتهرن بكراماتهن، وحظين بتقدير كبير من المجتمع، حيث كنَّ مصدرًا للبركة سواء في حياتهن أو بعد وفاتهن. بعد وفاة لالة تعزى تاسملالت، تحوّل ضريحها إلى مزار شهير، وتم بناء مدرسة علمية عتيقة بالقرب منه تبركًا بمقامها.

وقد زار محمد المختار السوسي هذا المزار، وعبّر عن إعجابه بالهيبة التي تحيط به. وفقًا للمعتقدات السائدة، استمرت لالة تعزى تاسملالت في التواصل مع الأحياء من خلال الرؤى بعد وفاتها، -يعتقد أنها تتدخل في شؤون الدنيا وأنها على تواصل دائم مع عالم الاحياء من عالمها الآخر. وتعتبر رؤيا الولية الصالحة امتدادًا لرؤية الرسول (صلعم) خسب المعاقد السائد في الفضاء الروحي لسوس، وهي علامة من علامات الصلاح الكبرى. ومن ثم، يظل تأثير الوليّة حاضرًا في الحياة اليومية، حيث يُروى عن كراماتها ويُعتقد أن الدعاء عند ضريحها يُستجاب.

نود أن نشير هنا إلى أن وفاة النساء الصالحات لا يعني نهاية مسيرتهن الروحية، بل على النقيض من ذلك، تصبح بركتهن وتأثيرهن أكبر بعد وفاتهن. وفي هذا الصدد وجبت الإشارة الى أن بعضهن لم تظهر كراماتهن إلا بعد حصول موتهن، كما ذكر ذلك ابن قنفد القسنطيني، أنس الفقير، وعز الحقير الذي إعتنى بنشره وتصحيحه كل من الأستاذ محمد الفاسي وأدولف فور، حين قال إن “الكرامة لا تنقطع بوفاة صاحبها”. بعد رحيل الصالحة، يُشيّد ضريحها الذي يتحول تدريجيًا إلى مكان للتبرك، ومع مرور الوقت قد يتطور إلى موسم سنوي تُقام فيه طقوس واحتفالات دينية.

وهكذا فاستمرار تأثير الولية بعد وفاتها يُعد جزءًا من الصلاح الدائم الذي لا ينقطع. فغيابها الجسدي لا يعني غياب روحها من عالم الأحياء؛ فهي تظل حاضرة وتؤثر على الحياة اليومية بقدسيتها. وما انتشار عادة زيارة الأضرحة في المغرب والتشفع بالأولياء وطلب بركتهم إلا تعبير صريح عن تجذر هذه الممارسات في العقيدة الجماعية. لم يكن دور النساء الصالحات في البادية مقتصرًا على التبرك فقط، بل كانت لهن أدوار سياسية هامة. فقد كن يتدخلن في فض النزاعات ومنع اندلاع الحروب في مناطق “بلاد السيبة”، والمقصود بها في تاريخ المغرب المناطق الخارجة عن سيطرة الحكم المركزي. وفي ظل غياب قوة قهرية تضمن الأمن والسلم، لعبت هؤلاء النساء الصالحات والوليات أدوارًا محورية في حفظ الاستقرار السياسي والاجتماعي في تلك المناطق.

الحسين بوالزيت

صحافي وباحث في التاريخ

 

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

    موافق